وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: ١٥] ؛ فَدَلَّ أَمْرُهُ بِاتِّبَاعِهِمْ عَلَى إِمْكَانِ اتِّفَاقِهِمْ وَوُجُوبِ إِجْمَاعِهِمْ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالَ {وَمَنْ يشاقق الرسول من بعدما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: ١١٥] الْآيَةَ.
فَصَارَ خِلَافُهُمْ مَحْظُورًا، أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأُمَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا " ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ إِلَّا عَلَى حَقٍّ فَقَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١١٠] الْآيَةَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ".
ثُمَّ جَعَلَ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ لِيَسْتَدِيمَ الْإِبْلَاغُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: ١٤٣] ، فَجَعَلَ الرَّسُولَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ "، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجْمَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أُمَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ هَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَذِبِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ أُمَّتِهِمْ، لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا.
فَأَمَّا إِجْمَاعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى كَذِبِهِمْ فِي قَتْلِ عِيسَى فَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَقْلِ الْقَتْلِ الْمَأْخُوذِ عَنْ آحَادٍ تَعْتَرِضُهُمُ الشُّبْهَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَطَرَّقَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى النَّقْلِ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بَاطِلًا.
فَصَارَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ أَرْبَعَةَ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: إِمْكَانُ وَجُودِهِ.
وَالثَّانِي: لُزُومُ حُجَّتِهِ.