حَنِيفَةَ، أَوْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِيهَا إِلَى الْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ جَازَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: قَدِ اسْتَقَرَّتِ الْيَوْمَ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ وَتَعَيَّنَ الْأَئِمَّةُ الْمُتَّبَعُونَ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لِمَنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ فَمَنَعَ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنَعَ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُضَاةُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْمُمَايَلَةِ، وَأَوْجَبُوا عَلَى كُلِّ مُنْتَحِلٍ لِمَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الرَّأْيُ يَقْتَضِيهِ فَأُصُولُ الشَّرْعِ تُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: الْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ مِمَّنِ اعْتُزِيَ إِلَى مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَمَّا تَوَسَّطَ أَمْرَ الشُّورَى وَانْتَصَبَ لِاخْتِيَارِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ عَلَى كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَعَدَلَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَبَايَعَهُ.
فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا امْتَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمَا وَأَجَابَ عُثْمَانُ إِلَى تَقْلِيدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُمَا أنه أَعْلَمُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمَا أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمَا دَعَا إِلَى تَقْلِيدِهِمَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذٍ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الحمد لله الذي وفق رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ".
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ أَعْلَمَ وَلِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرِكَيْنِ فِي آلَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لْهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَالْمُفْتِي.
وَلِأَنَّ مَا حَرُمَ مِنَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْمُفْتِي حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ، كَالتَّقْلِيدِ مع النص.