وَإِنْ عَلِمَ إِسْلَامَهُمْ وَجَهِلَ عَدَالَتِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ عَدَالَةِ ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ فَيَحْكُمَ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ.
وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ سِيمَا حَسَنٌ وَسَمْتٌ جَمِيلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَعْمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْهَا إِلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا، أَوْ يَجْرَحُهُمُ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْهَا فِيمَا عَدَاهُمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لَهُمْ سِيَمَا جَمِيلٌ وَسَمْتٌ حَسَنٌ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِيمَا وَسَمْتٌ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ، إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: ١٤٣] .
وَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " وَسَطًا " وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ.
(هُمْ وَسَطٌ تَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ. فَقَالَ لَهُ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالصِّيَامِ مِنَ الْغَدِ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَتِهِ، وَعَمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي فِرْيَةٍ " فَحَكَمَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، إِلَّا مَنْ ثَبَتَ جَرْحُهُ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَدَرَأَ الْحُدُودَ بِالْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ " وَهَذَا عَهْدٌ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ.
وَقَالُوا: وَلِأَنَّ الْفِسْقَ طَارِئٌ بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ مِنْ فِعْلِ الْمَعَاصِي بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَامَ حُكْمُ عَدَالَتِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهَا مِنْ فِسْقِهِ.