للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي ذَلِكَ وَأَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي خَطَّهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يحكم بخطه إذا لم يذكره.

فإن أحضره الْمُدَّعِي شُهُودًا يَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ حَقِّهِ عَلَى خَصْمِهِ فَلِذَلِكَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ عِنْدَهُ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِكَذَا، سَمِعَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَكَمَ لِهَذَا الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ بِكَذَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَيَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِحُكْمِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى:

وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ كَمَا يَسْمَعُهَا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ.

اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَشْهَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى مَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَصَدَّقَاهُ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَكَانَ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الْحُكَّامِ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَحَقَّ.

وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِمَا رَوَاهُ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بِالْهُرْمُزَانِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ نَزَلَ عَلَى حُكْمِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْهُرْمُزَانُ عَلَيْهِ سَكَتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ كَلَامُ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَكَلَّمْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ فَقَالَ: " نَحْنُ وَأَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ حَيْثُ خَلَا اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كُنَّا نَسْتَعْبِدُكُمْ فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَكُمْ فَلَيْسَ لَنَا بِكُمْ يَدَانِ فَأَمَرَ عُمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ أَنْسٌ: كَيْفَ تَقْتُلُهُ وَقَدْ قُلْتَ لَهُ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ عُمَرُ لِأَنَسٍ: " مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ " فَشَهِدَ مَعَهُ الزُّبَيْرُ، فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَطْلَقَهُ آمِنًا، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ، وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى عُمَرَ سَمَاعَهُ لِلشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ.

وَقَدْ أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي رِوَايَاتِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ: رَوَى ربيعة، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " وَنَسِيَ سُهَيْلٌ الْحَدِيثَ، فقال له ربيعة: أنت حدثتني به فَكَانَ سُهَيْلٌ يَقُولُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>