وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: النِّكَاحُ وَاللِّعَانُ وَالْقَذْفُ وَالْقِصَاصُ.
فَفِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِوُقُوفِهَا عَلَى رِضَا الْمُتَحَاكِمَيْنِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وَحُدُودٌ يَخْتَصُّ الْوُلَاةُ بِهَا.
فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً لَا وَلِيَّ لَهَا خَطَبَهَا رَجُلٌ فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ لِيُزَوِّجَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي بَادِيَةٍ لَا يَصِلَانِ إِلَى حَاكِمٍ جَازَ تَحْكِيمُهُمَا وَتَزْوِيجُ الْمُحَكَّمِ لَهُمَا. وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحَيْثُ يَقْدِرَانِ فِيهِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ فِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَصِيرُ الْحُكْمُ بِهِ لَازِمًا لَهُمَا.
وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْحُكْمُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ كَالْفُتْيَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ عَلَى خِيَارِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَقِفَ عَلَى خِيَارِهَا فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَكُونُ بحُكْم الْمُحَكَّمِ لَازِمًا لَهُمَا وَلَا يَقِفُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى خِيَارِهِمَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا بِهِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ " فَكَانَ الْوَعِيدُ دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ حُكْمِهِ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣] فَدَلَّ الْوَعِيدُ عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَنْ عَلِمَ عِلْمًا وَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " فَدَلَّ الْوَعِيدُ عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ بِمَا أَبْدَاهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ وَاحِدًا " فَصَارَ بِتَأْمِيرِهِمْ لَهُ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ كَنُفُوذِهِ لَوْ كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ.
وَحَكَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّ خِيَارَهُمَا فِي التَّحْكِيمِ يَنْقَطِعُ بِشُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ، فَإِذَا شَرَعَ فيه صار لازما لهما، وإن كان قيل شُرُوعِهِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِمَا لِأَنَّ خِيَارَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحُكْمِ مُفْضٍ إِلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالتَّحْكِيمِ حُكْمٌ إِذَا رَأَى أَحَدُهُمَا تَوَجَّهَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ التَّحْكِيمُ لَغْوًا.
فَإِذَا صَارَ نَافِذَ الْحُكْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ