وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٣٤] اسْتِثْنَاءٌ يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهُ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُ صِفَةٌ، كَذَلِكَ صِفَةُ هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: رَدُّ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ، وَالْفِسْقُ تَسْمِيَةٌ وَالْخِطَابُ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى حُكْمٍ وَتَسْمِيَةٍ وَتَعَقَّبَهَا اسْتِثْنَاءٌ يَعُودُ إِلَى التَّسْمِيَةِ دُونَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: أَعْطِ زَيْدًا وَعَمْرًا الْفَاسِقَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فَاسِقًا، وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْفِسْقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ حُكْمَانِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَا ادَّعَوْا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، لَكَانَ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالتَّوْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ عُودِهِ إِلَى الِاسْمِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ وَلَا تُغَيِّرُ الْأَسْمَاءَ، ثُمَّ تَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: ٤٢] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوْبَةَ تُوجِبُ الْقَبُولَ، وَالْعَفْوَ، وَهُمْ حَمَلُوهَا عَلَى الْقَبُولِ دُونَ الْعَفْوِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الشَّعْبِيُّ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ؟
ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا " أَيْ تَقْطَعُهُ، وَتَرْفَعُهُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصُ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا، قَالَ لَهُ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَقَالَ: لَا أَتُوبُ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهَا قِصَّةٌ اجْتَمَعُوا لَهَا فَمَا أَنْكَرَ قَوْلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ: أَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا رُدَّتْ بِفِسْقٍ قُبِلَتْ بِزَوَالِ الْفِسْقِ؛ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ مَا يُفَسَّقُ بِهِ.
وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْحَدِّ قُبِلَتْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ.
وَلِأَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ مِنْ بَعْدِ التَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ.
وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا لِتَرَدُّدِ الْقَذْفِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَغْلَظِ الْإِثْمَيْنِ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ كَانَ قَبُولُهُ بِالتَّوْبَةِ مَنْ أَخَفِّهِمَا قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ أَوْلَى.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ،