للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النسب إذا سمعه ينسبه زمانا وسمع غيره ينسبه إلى نسبه ولم يسمع دافعا ولا دلالة يرتاب لها ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَشَهَادَةُ الْأَعْمَى يَخْتَلِفُ قَبُولُهَا بِاخْتِلَافِ مَا رَتَّبْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الشَّهَادَاتِ الثَّلَاثَةِ مِمَّا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الْمُعَايَنَةَ بِالْبَصَرِ كَالْأَفْعَالِ.

فَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَرْدُودَةٌ بِإِجْمَاعٍ لِفَقْدِ آلَتِهِ بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِيمَا يَصِيرُ عَالِمًا بِهِ، وَمَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ السَّمَاعَ كَالْأَنْسَابِ، وَالْأَمْلَاكِ، وَالْمَوْتِ، فَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ فِيهِ لِمُسَاوَاتِهِ لِلْبَصِيرِ فِي إِدْرَاكِهَا بِالسَّمْعِ الْمُتَكَافِئَانِ فِيهِ.

وَلَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهَا مَرْدُودَةٌ فِيمَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ، كَرَدِّهَا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَأَجْرَى الْعَمَى مَجْرَى الْفِسْقِ حِينَ قَالَ لَوْ سَمِعَ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ، وَهُوَ بَصِيرٌ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى عَمِيَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بَعْدَ عَمَاهُ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَخَالَفَهُمَا بِالْمَصِيرِ إِلَى قَوْلِنَا أَبُو يُوسُفَ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ كَاعْتِبَارِهِ فِي وِلَايَةِ الْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ فِي جَمِيعِهَا، فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا تَقْلِيدُ عَبْدٍ، وَلَا فَاسِقٍ، وَلَا أَعْمَى، فَوَجَبَ إِذَا رُدَّ فِي الشَّهَادَةِ الْعَبْدُ وَالْفَاسِقُ أَنْ يُرَدَّ فِيهَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْأَفْعَالِ لَمْ تُقْبَلْ فِي الْأَقْوَالِ، كَالْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ.

وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِالسَّمَاعِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ كَمَا أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِالْبَصَرِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَصَمُّ وَالسَّمِيعُ لِاخْتِصَاصِ الْعِلْمِ بِجَارِحَتِهِ الْمَحْسُوسِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ فَقْدُ عُضْوٍ لَا يُدْرَكُ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِحَّتِهَا مَعَ إِمْكَانِ إِدْرَاكِهَا كَقَطْعِ الْيَدِ.

وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، فَقْدُ رُؤْيَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَمَى بَعْدَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهَا أَنَّ الْمَوْتَ الْمُبْطِلَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَجَمِيعِ الْحَوَاسِّ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ فَذَهَابُ الْبَصَرِ مَعَ بَقَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَوَاسِّ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَصَمِّ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا اخْتُصَّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ فَقَدَ حَاسَّةَ السَّمْعِ جَازَ لِلْأَعْمَى أَنْ يَشْهَدَ بِمَا اخْتَصَّ بِالسَّمَاعِ، وَإِنْ فَقَدَ حَاسَّةَ الْبَصَرِ، لِاخْتِصَاصِ الِاعْتِبَارِ بِالْحَاسَّةِ الْمُدْرِكَةِ، وَاعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ بِالْوِلَايَةِ يَبْطُلُ فَالْمَرْأَةُ تَجُوزُ شَهَادَتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهَا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَفْعَالِ فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ مَفْقُودٌ فِي الْأَعْمَى، وَمَا أُدْرِكَتْ بِهِ الْأَقْوَالُ مَوْجُودٌ فِيهِ فافترقا.

<<  <  ج: ص:  >  >>