الْيَمِينِ كَامِلٌ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى نُكُولِهِ حُكْمُ الْكَمَالِ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ نُكُولِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، فَبَطَلَ بِهِ هَذَا التَّعْلِيلُ.
فَإِنْ قِيلَ: النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ يَجْرِي مَجْرَى تَرْكِ الْحَقِّ، وَبَذْلُ الْأَمْوَالِ يَصِحُّ، فَيَثْبُتُ بِالنُّكُولِ، وَبَذْلُ الْحُدُودِ وَالنُّفُوسِ لَا يَصِحُّ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنُّكُولِ.
قِيلَ: النُّكُولُ تَرْكٌ لِلْحُجَّةِ، وَلَيْسَ بِبَذْلٍ لِلْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَثَبَتَ حُكْمُهُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْبُذُولِ، وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ إِلَّا بَعْدَ نُكُولِهِ ثَلَاثًا، ٧ فَخَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْبَذْلِ، فَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْبَذْلِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نُكُولٌ لَا يُقْضَى بِهِ فِي الْقِصَاصِ، فَلَمْ يُقْضَ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ كَالنُّكُولِ الْأَوَّلِ.
وَالْقِيَاسُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنُّكُولِ الثَّالِثِ كَالْقِصَاصِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى، فَلَمْ يُقِرَّ، وَلَمْ يُنْكِرْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَانَ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ أَوْلَى أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي سُكُوتِهِ امْتِنَاعًا مِنْ أَمْرَيْنِ: الْجَوَابُ وَالْيَمِينُ وَفِي نُكُولِهِ امْتِنَاعٌ مِنَ الْيَمِينِ دُونَ الْجَوَابِ، فَكَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَخَفَّ حُكْمًا مِنِ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ لَفْظٍ وَجَبَ بِالدَّعْوَى، فَلَمْ يُوجِبِ الْحُكْمَ بِالدَّعْوَى كَالثَّالِثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ لَفْظَيْ مَا وَجَبَ بِالدَّعْوَى، فَلَمْ يَكُنِ السُّكُوتُ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِالدَّعْوَى كَالْجَوَابِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَمِينَ الْمُنْكَرِ يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ، وَلَا يُسْقِطُ الْحَقَّ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَوْ قَامَتْ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَجَبَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ عَنْهَا مَا كَانَ مُنْقَطِعًا، وَهُوَ بَقَاءُ الْخُصُومَةِ لَا ثُبُوتُ الْحَقِّ كَمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ لما كانت موجبة لثبوت الحق كان العدول عَنْهَا مَانِعًا مِنْ سُقُوطِهِ بِهَا.