لِعَدَمِ غَيْرِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ، أَوْ يَرَاهُ فَلَا يَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَوَاءٍ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ، أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الْمُقِرِّ مِنَ الدَّيْنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَيَحْلِفُ الْمُنْكِرُ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ وَيَبْرَأُ، وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ. وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَى أَبِي مَا ادَّعَاهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدين.
وكان أبو عبيد بن حرثون وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ وَهُمَا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُخَرِّجَانِ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ. فَخَالَفَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَكْثَرُهُمْ وَوَافَقَهُمَا أَقَلُّهُمْ، وَجَعَلُوهُ تَخْرِيجًا مِنْ مُقْتَضَى نَصٍّ وَلَيْسَ بِتَخْرِيجٍ مِنْ نَصٍّ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ فِي الْقَسَامَةِ فَاسْتَحَقَّ [بِأَيْمَانِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ] وَكَانَ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ، قَضَي جَمِيعَهُ مِنْ حِصَّةِ الِابْنِ الْحَالِفِ، كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَّجُوهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَاخْتَلَفَ من أنكر تخريج هذا القول في ما قَالَهُ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَيْمَانِهِ، كَانَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، فَأُخِذَ جَمِيعُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ غَيْرَهُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَخَاهُ مُعْتَرِفٌ بِالدَّيْنِ، فَاسْتَحَقَّ بِاعْتِرَافِهِمَا جَمِيعَ الدَّيْنِ، وَعُجِّلَ قَضَاؤُهُ مِنَ الذِّمَّةِ لِتَأْخِيرِ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَلَى أَخِيهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَخُ مُنْكِرًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمُقِرِّ إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى وُجُوبِ الدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى الْمُقِرِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: ١٢] .
فَجَعْلَ لِلْوَارِثِ مَا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِثَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ جَمِيعِهِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ وَلَيْسَ بِمُشَارِكٍ.
وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُنْكِرُ مِنَ التَّرِكَةِ كَالْمَغْصُوبِ فِي حَقِّ الدَّيْنِ، وَغَصْبُ بَعْضِ التَّرِكَةِ مُوجِبٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَاقِيهَا، فَلَزِمَ أَخْذُ جَمِيعِهِ مِنْهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّيْنِ دُونَ جَمِيعِهِ، هُوَ أَنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ