لِسَبَبٍ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ سَبَبُهُ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كَصِنَاعَةِ الْأَوَانِي، وَمَا يُنْتَجُ مِنَ الْخَزِّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، لَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ كَالنِّتَاجِ، وَثِيَابِ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَبِهِ قَالَ مَالكٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، أَوْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ، وَقُضِيَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ سُمِعَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَسَمَّوُا الْمُدَّعِي خَارِجًا، وَصَاحِبَ الْيَدِ دَاخِلًا، فَقَالَ: تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَأَضَافَ الْبَيِّنَةَ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعِي وَأَضَافَ الْيَمِينَ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُوجِبِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَنْتَقِلَ الْبَيِّنَةُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا تَنْتَقِلُ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعِي.
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يَسْتَفِدْ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ مَا لَا يَسْتَفِيدُ بِيَدِهِ وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي يُحْكَمُ بِهَا مَعَ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا مَعَ بَيِّنَتِهِ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَعْدُ إِلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ، ثُمَّ الْيَدُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ مُشَاهَدَةً وَالْبَيِّنَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ اسْتِدْلَالًا فَافْتَرَقَا وَلِأَنَّه لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِي الدَّيْنِ لَمْ تُسْمَعْ فِي الْعَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَقِّ الْخَارِجِ فِي الْقَبُولِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حَقِّ الدَّاخِلِ فِي الرَّدِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّه لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا لَمْ يُقِمِ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ مَعَ قُوَّةِ الدَّاخِلِ، وَضَعْفِ الْخَارِجِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ مَعَ ضَعْفِ الدَّاخِلِ، وَقُوَّةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ مَعَ قُوَّتِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ مَعَ ضَعْفِهِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دَابَّةٍ، أَوْ بَعِيرٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ بِنَتَجِهَا فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، فَإِنْ قِيلَ فَبَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِي النِّتَاجِ مَقْبُولَةٌ.
قِيلَ: وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ قَضَى بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ تَعْلِيلًا بِالْيَدِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا لِلْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُدَّعِيًا لِلدَّيْنِ، فَوَجَبَ بِهَذَا الْخَبَرِ، أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَلِأَنَّ جَنَبَةَ الْخَارِجِ، أَضْعَفُ مِنْ جَنَبَةِ الدَّاخِلِ، فَلَمَّا سُمِعَتْ لِلْيَدِ مَعَ الضَّعْفِ كَانَ سَمَاعُهَا مَعَ الْقُوَّةِ أَوْلَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute