للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ فَصَحَّ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ.

قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ أَسْقَطَ بِهَا حَقَّهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى أَجَلٍ كَالْإِبْرَاءِ.

قَالُوا: وَلِأَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ غَرَرٌ، فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ مَعَهُ، لَزِمَكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ فِي السَّلَمِ أَنْ تَجْعَلُوهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْأَجَلِ أَصَحَّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِيهِ: إِذَا جَازَ مُؤَجَّلًا كَانَ حَالًا أَجْوَزُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ.

وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} إِلَى قَوْلِهِ: {فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣] . فَسَمَّاهَا كِتَابَةً وَأَفْرَدَهَا بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ. وَالْعَقْدُ إِذَا أُفْرِدَ بِاسْمٍ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ، كَالسَّلَمِ سُمِّيَ سَلَمًا، لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ سُمِّيَتْ كِتَابَةً لِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ.

وَالْكِتَابَةُ إِنَّمَا نَدَبْنَا إِلَيْهَا فِي الْحُقُوقِ الْمُؤَجَّلَةِ دُونَ الْمُعَجَّلَةِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: ٢٨٢] وَقَالَ فِي الْمُعَجَّلَةِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: ٢٨٢] فَدَلَّ اخْتِصَاصُ هَذَا الْعَقْدِ بِاسْمِ الْكِتَابَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِحُكْمِ التَّأْجِيلِ.

وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ.

وَالْغَرَرُ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَوَازَيْنِ أَخْوَفُهُمَا أَغْلَبُهُمَا وَالْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ غَرَرٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُكَاتَبِ عَجْزُهُ عَنْهَا فَكَانَ عَقْدُهَا بَاطِلًا وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسٌ.

فَنَقُولُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتَعَذَّرُ فِيهِ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَكَالسَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ يَتَحَقَّقُ عَدَمُهُ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ الصَّغِيرَةِ، لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَ إِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ بِالْبَيْعِ عَلَى مُعْسِرٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ.

قِيلَ: إِعْسَارُهُ فِي الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُ إِعْسَارَهُ فِي الْبَاطِنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَمْلِكَ مَا لَا يُعْلَمُ وَإِعْسَارُ الْمُكَاتَبِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ قَبْلَ كِتَابَتِهِ فَافْتَرَقَا فِي تَعْيِينِ الْإِعْسَارِ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي الْجَوَازِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ يُؤَدِّيهِ فِي نَجْمَيْنِ مُقَدَّرَيْنِ بِسَاعَتَيْنِ مِنْ يَوْمٍ تَتَعَذَّرُ مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَتَصِحُّ كِتَابَتُهُ.

وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَجَّلِ قِيلَ: يُمْكِنُهُ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ النَّجْمِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً بِقَدْرِ كِتَابَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِّ الْمُعَجَّلِ فَافْتَرَقَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>