وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَفْظُ الْكِتَابَةِ صَرِيحٌ يَتَحَرَّرُ بِهِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ تَصْرِيحٌ بِالْعِتْقِ وَلَا نِيَّةٌ كَالتَّدْبِيرِ هُوَ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيرِ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَصْرِيحٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْكِتَابَةِ كِنَايَةٌ يَتَسَاوَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ.
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كِتَابَةَ الْمُرَاسَلَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كِتَابَةَ الْمُخَارَجَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كِتَابَةَ الْعِتْقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مَعَ احْتِمَالِهِ صَرِيحًا وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيئَةٌ.
فَأَمَّا لَفْظُ التدبير: فالذي نص عليه الشافعي أن يكونا صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ كَمَا نَصَّ فِي لَفْظِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي التَّدْبِيرِ إِلَى الْكِتَابَةِ وَجَوَابَهُ فِي الْكِتَابَةِ إِلَى التَّدْبِيرِ وَخَرَّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ فِيهِمَا صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي التَّدْبِيرِ وَلَا تَفْتَقِرُ الْكِتَابَةُ إِلَى نِيَّةٍ كَمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَيْهَا التَّدْبِيرُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ لَا يَقَعُ فِيهِمَا إلى بِنِيَّةٍ أَوْ تَصْرِيحٍ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ فِي التَّدْبِيرِ إِلَّا بِتَصْرِيحٍ أَوْ نِيَّةٍ كَمَا لَمْ يَصْحَّ فِي الْكِتَابَةِ، فَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا جَعَلَ التَّدْبِيرَ صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ مِنَ الْعَالِمِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جَاهِلٍ لَكَانَ كِنَايَةً وَجَعَلَ الْكِتَابَةَ كِنَايَةً مِنَ الْجَاهِلِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْعَالِمِ لَكَانَ صَرِيحًا، فَسَوَّى بَيْنِ لَفْظِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، فَجَعَلَهُمَا صَرِيحِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كِنَايَتَيْنِ مِنَ الْجُهَّالِ.
وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتَهُ تَسْتَوِي فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ الْجَوَابَ مِنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَتَكُونُ لَفْظُ الْكِتَابَةِ كِنَايَةً مِنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَالتَّدْبِيرُ صَرِيحًا مِنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَثْرَةُ التَّدْبِيرِ وَقِلَّةُ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ التَّدْبِيرُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعِتْقِ صَرِيحًا وَالْكِتَابَةُ لقلة استعمالها فيه كناية.