قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي الْغَالِبِ. فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، كَالْمَفَاوِزِ وَالْبَوَادِي
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جمعوا حيث كنتم " ولم يخض بَلَدًا مِنْ قَرْيَةٍ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَرْيَةٍ مُزَنِيَّةٍ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى أَوَّلَ جُمْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْخَضَمَاتُ وَلَمْ يَكُنْ مِصْرًا، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ جُمْعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرِينِ تُسَمَّى جُوَاثَا وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ صَلَاةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يكون من شرطها المصر، كسائر الصلوات، ولأنه مَعْقِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَجَازَ أَنْ يُقِيمُوا الْجُمْعَةَ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ
الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جَامِعٍ " فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه على وهاء في إسناده ثم لَا يَصِحُّ لأبي حنيفة الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ أَنَّ إِمَامًا أَقَامَ الْحُدُودَ، وَقَاضِيًّا نَفَّذَ الْأَحْكَامَ فِي قَرْيَةٍ وَجَبَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَ عَنِ الْمِصْرِ الْإِمَامُ وَالْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَخْلِفَا، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، فَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ الْمِصْرِ، وبطل أن يكون له فيه دلالة ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ، فَنَقُولُ لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ الْعَدَدَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا، وَلَا يَرِدُ بِهِ النَّقْلُ آحَادًا، فَيُقَالُ لَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ خَاصًّا، وَيَرِدُ النَّقْلُ بِهِ آحَادًا، فَلَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَالَةَ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَمْ يَرِدْ لَهُ فِي الْكِتَابِ ذِكْرٌ وَلَا بَيَانُ حُكْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ الْجُمْعَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامًّا، عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد عم البيان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مِنْبَرِهِ: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً " وَلَيْسَ فِي الْبَيَانِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوَادِي: فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ
فَإِذَا ثَبَتَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي الْقُرَى إِذَا اسْتَوْطَنَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ وَكَانُوا مُجْتَمِعِي الْمُنَازِلِ اعْتُبِرَتْ حَالُ مَنَازِلِهِمْ: فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ أَوْ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، أَوْ بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خِيَامًا أَوْ بُيُوتَ شَعَرٍ، أَوْ مِنْ سَعَفٍ، أو
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute