وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفَرُّقِ تَأْثِيرٌ فِيهِ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ.
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ، وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ.
ثُمَّ كَانَ الْخِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِالصِّفَاتِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْطِ وَقِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ.
فَالْقِسْمُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْطِ: أَنْ يَبْتَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ صَانِعٌ، فَيَجِدُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ لِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّرْطِ.
وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ: هُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ لِنَقْصٍ وَجَدَهُ عَنْ حَالِ السَّلَامَةِ، فَيَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ بِالشَّرْعِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِالزَّمَانِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
قِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْطِ: وَهُوَ خِيَارُ الثَّلَاثِ.
وَقِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ: وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ جِنْسَيِ الْخِيَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ: شَرْطًا وَشَرْعًا قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الصِّفَاتِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ تَمْلِيكُ الْمَالِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ كَالْهِبَةِ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ بَذْلٌ وَقَبُولٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَذْلِ، وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْقَبُولِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ قَوْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَعْدَهُ كَالْبَذْلِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِشْهَادُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْعَقْدُ. وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشْهَادًا عَلَى الْعَقْدِ وَوَثِيقَةً فِيهِ [كَمَا أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي خِيَارِ الثلاث، يكون بعد تقضّي الثلاث، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشْهَادًا عَلَى العقد ووثيقة فيه] .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَقَوْلِهِ: " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ " فَهُوَ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِي: حُجَّةٌ لَهُمْ.
فَقَوْلُهُ: " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ " حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَقَعْ لَازِمًا، وَأَنَّ فِيهِ خِيَارًا يَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ.
وَقَوْلُهُ: " خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ " حُجَّةٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِالْإِقَالَةِ.
فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ لِتَعَارُضِهِمَا، فَكَانَ تَغْلِيبُ الظَّاهِرِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ أحق لأمرين: