وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ جُعِلَتِ الثَّمَرُ فِيهِ أُجْرَةً، وَالْأُجْرَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً، أَوْ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ، وَمَا تثمره نخل المساقاة غير معين، وَلَا ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً.
وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنَ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا سِوَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ مِنَ الشَّجَرِ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَرِ مُنِعَ مِنْهَا مِنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ لِجَهَالَةِ الثَّمَرِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مسلم بن خالد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ نَقُومُ لَكُمْ بِالْعَمَلِ فِي النَّخْلِ، قَالَ فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِمْ يَعْمَلُونَهَا وَيَقُومُونَ بِهَا عَلَى أَنَّ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَطْرَ الثَّمَرِ وَلَهُمُ الشَّطْرَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبْعَثُ مَنْ يَخْرِصُهَا عَلَيْهِمْ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيُؤَدُّونَ الشَّطْرَ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْيَهُودِ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبعث عبد الله بن رواحة، فيخرص بينه وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي " فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ.
فَدَلَّتْ مُسَاقَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأهل خيبر - وإن كانت مستفيضة يستغني عَنْ نَقْلٍ - عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى نَخْلٍ. اعترضوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقَدَهَا عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُسَاقَاةُ لَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تُعْقَدَ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا عَقَدَهُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ النَّسْخَ فِي زَمَانِهِ مُمْكِنٌ، وَعِلْمَهُ بِمَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مُثَابٌ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الشَّرْطُ، وَنَسْخُ بَعْضِ شَرَائِطِ الشَّيْءِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ بَاقِيهِ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ لَا فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّةَ قِيلَ إِنَّمَا اقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى نَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَنْقُلْ شُرُوطَ الْعَقْدِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ عَبِيدٌ يُسْتَرَقُّونَ لَا تَصِحُّ مُسَاقَاتُهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ مُخَارَجَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ سَبْيِهِمْ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَهُمْ عَلَى إِقْرَارِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ مَعَهُمْ وَضَمَّنَهُمْ شَطْرَ الثَّمَرَةِ، وَصُلْحُ الْعَبِيدِ وَتَضْمِينُهُمْ لَا يَجُوزُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَاهُمْ عَنِ الْحِجَازِ، وَإِجْلَاءُ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَتَعَيَّنَ مَالِكُوهُمْ، وَلَاقْتَسَمُوا رِقَابَهُمْ فَأَمَّا صَفِيَّةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الذرية دون المقاتلة.