والقول الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا إِنَّ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ شَطْرَ ثِمَارِهِمْ جِزْيَةً.
وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَلَكَ أَرْضَهُمْ وَكُلَّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَلَكْتُ مِائَةَ سهمٍ مِنْ خَيْبَرَ وَهُوَ مالٌ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حبس الأصل وسهل الثَّمَرَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَاهُمْ عَنْهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْمُنْعَقِدِ عَنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُسَاقَاةِ أَهْلِ خَيْبَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اتِّبَاعًا لَهُ إِلَى أَنْ حَدَثَ مِنْ إِجْلَائِهِمْ مَا حَدَثَ.
ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّهَا تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ إِجَارَتُهَا جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْقِرَاضِ.
ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقِرَاضِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا عَنْ تَوْقِيفٍ أَوِ اجْتِهَادٍ يُرَدُّ إِلَى أَصْلٍ وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ توقيف نص عليه، فلم يبقى إِلَّا اجْتِهَادٌ أَدَّى إِلَى إِلْحَاقِهِ بِأَصْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسَاقَاةَ.
وَإِذَا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَصْلًا لِفَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُضَارَبَةُ إِجْمَاعًا وَكَانَتْ عَمَلًا عَلَى عِوَضٍ مَظْنُونٍ مِنْ رِبْحٍ مَجُوزٍ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهَا عَمَلٌ عَلَى عِوَضٍ مُعْتَادٍ مِنْ ثَمَرَةٍ غَالِبَةٍ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَيْسَتْ غَرَرًا لِأَنَّ الْغَرَرَ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَائِزَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ أَوْ بِتَرَجَّحِ الْأَخْوَفِ مِنْهُمَا، وَالْأَغْلَبُ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ حُدُوثُهَا فِي وَقْتِهَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي فِي مِثْلِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي إِبَاحَتِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَلَوْ جَازَ أَنْ نَقِيسَ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا لَجَازَ أَنْ نَقِيسَ الْمُخَابَرَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ فِي جَوَازِهَا وَلَكِنِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ إِجَازَةِ الْمُسَاقَاةِ وَإِبْطَالِ الْمُخَابَرَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تُرَدَّ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُخَابَرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ.