بدر وإذا مَنَعَتِ الْآيَةُ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَالٍ كَانَتْ مِنَ الْفِدَاءِ بِالْمَنِّ لِمَنْ بَغَيرِ مَالٍ أَمْنَعُ، وَقَالَ تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: ٥] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَنَهَى عَنْ تَخْلِيَتِهِمْ بَعْدَ أَخْذِهِمْ وَحَصْرِهِمْ إِلَّا بِإِسْلَامِهِمْ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَلَا مَنْعُ السِّلَاحِ وَالْعَبِيدِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَبَعٌ يَقِلُّ ضَرَرُهُ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ فَكَانَ بِأَنْ لَا يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يُفَادَوْا بِمَالٍ عَنْ رِقَابِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ أَعْظَمُ، وَإِضْعَافَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ أَبْلَغُ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَظْرِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَصَوَّرُوا جَوَازَهَا عِنْدَنَا أَقْدَمُوا عَلَى الْحَرْبِ تَعْوِيلًا عَلَى الْفِدَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ وَرَجَاءَ الْمَنِّ، وَإِذَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ إِذَا أَصَرُّوا كَانَ ذَلِكَ أَحْجَمَ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْقِتَالِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ظاهرة كان ما دعى إليها لازما.
والدليل عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لقيتم الذين كفروا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: ٤] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ دِينٌ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ صَرِيحًا فِي هَذَا الْآيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥] لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَاسْتِعْمَالُهُمَا مُمْكِنٌ فِي جَوَازِ الْكُلِّ، وَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَإِبَاحَتُهُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ خَاصَّةً مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِأُسَارَى بَدْرٍ لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ، وهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِجَوَازِهِ عِنْدَهُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ. قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَبَرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "، وَكَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَتَوْهُ مُسْلِمِينَ وَقَدْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute