وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا، وَقَالَ: دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ منه هو أنه لما نقل الْعَيْبَ وَالرَّدَّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ، لِأَجْلِ الْعَيْبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا لأجل العيب كالتي قالت له حِينَ تَزَوَّجَهَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: " لَقَدِ استعذتي بمعاذ فالحقي بِأَهْلِكِ " فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهُ لِأَجْلِ اسْتِعَاذَتِهَا مِنْهُ قِيلَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ خَالَفَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِهِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ حَالُ طَلَاقِهِ لِلْمُسْتَعِيذَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ فَعَدَلَ بِهِ إِلَى الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَكِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ على ما هو صريح فيه.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْتَنِبُوا مِنَ النِّكَاحِ أَرْبَعَةً: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَسْخِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: هُوَ أَنَّهُ عَيْبٌ يَمْنَعُ غَالِبَ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ كَالْجَبِّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الصِّغَرُ، وَالْمَرَضُ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ إذا احتمل الفسخ وجب أن يجري الفسخ في جنس العقد ولأنه عيب مقصود بعقد النكاح فوجب أن يستحق الْفَسْخَ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ رَدَّ عِوَضٍ مَلَكَ عَلَيْهِ رَدَّ الْمُعَوَّضَ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا عَيْبٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ المعقود عليه هو الاستمتاع المستباح، وَهَذِهِ عُيُوبٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ زَمَانَةَ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي مَنَافِعِهِ فَاسْتَحَقَّ بِهَا الْفَسْخَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْخَمْسَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَلَا تُنَفِّرُ النُّفُوسَ مِنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ، لِأَنَّهَا إِمَّا مَانِعَةً من المقصود أو منفرة لِلنُّفُوسِ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْهِبَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجَبِّ، وَهُوَ نُقْصَانُ جُزْءٍ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهِبَةِ، أَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا فَيَلْحَقَهُ ضَرَرٌ