اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: ٢٣٠] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُكْرَهٍ وَمُخْتَارٍ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ المعتوه الصبي) . فَدَخَلَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فِي عُمُومِ الْجَوَازِ.
وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ) .
وَالْمُكْرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ جَادًّا أَوْ هَازِلًا فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ عِمْرَانَ كَانَ نَائِمًا مَعَ امْرَأَتِهِ فِي الْفِرَاشِ فَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، وَوَضَعَتِ السِّكِّينَ وَقَالَتْ: طَلِّقْنِي وَإِلَّا ذَبَحْتُكَ فَنَاشَدَهَا اللَّهَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: (لَا إِقَالَةَ فِي الطَّلَاقِ) .
أَيْ لَا رُجُوعَ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ طَلَاقُ مُكَلَّفٍ مَالِكٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا كَالْمُخْتَارِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ الْإِرَادَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ كَالْهَزْلِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ مَعَ الِاخْتِيَارِ، أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالرَّضَاعِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ مَرْفُوعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَالِاسْتِكْرَاهُ لَمْ يُرْفَعْ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ، قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِكْرَاهِ، لَا الِاسْتِكْرَاهُ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْخَطَأِ لَا وُجُودُ الْخَطَأِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: (عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) . فَبَانَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ، قِيلَ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ، لِأَنَّ مَا رَفَعَ الْحُكْمَ قَدْ رَفَعَ الْإِثْمَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute