للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِغْلَاقُ كَالْإِكْرَاهِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَالْمُغْلَقِ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجُنُونُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقُ الْإِرَادَةِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَقْوَمُ بِمَعَانِيهَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَوْلَى.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ أَعَمَّ. وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَهُ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ، لَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ لَهُمْ، مِنْهُمْ عُمَرُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَنَّ رَجُلًا تَدَلَّى بِحَبْلٍ يَشْتَارُ - أَيْ يَجْتَنِي عَسَلًا - فَأَدْرَكَتْهُ امْرَأَةٌ، فحلفت لتقطعن الحبل أو ليطلقها ثَلَاثًا فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ فَحَلَفَتْ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لِيَفْعَلَنَّ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَمَّا خَرَجَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي كَانَ مِنَ امْرَأَتِهِ إِلَيْهِ، وَالَّذِي كَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى امْرَأَتِكَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ.

وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُضْطَهَدِ طَلَاقٌ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَانَا يَرَيَانِ مِثْلَ ذَلِكَ.

وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَفْظٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْإِيقَاعِ بِالْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الرَّضَاعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ، وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ بِهِ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَخَالَفَ الْإِيقَاعَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ.

فعن ذلك جوابان:

أحدهما: أنه إِقْرَارَ الْمُكْرَهِ لَمْ يَرْتَفِعْ لِاحْتِمَالِ دُخُولِ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ احْتِمَالِ الصِّدْقِ. وَالْكَذِبُ مَوْجُودٌ فِي إِقْرَارِ الْمُخْتَارِ، وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ الْإِكْرَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِيقَاعِ.

وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الرَّضَاعَ فِعْلٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَصْدُ، فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَوْلٌ يُرَاعَى فِيهِ الْقَصْدُ، فَافْتَرَقَ فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَوْ أَرْضَعَتْ ثَبَتَ بِهِ حكم التحريم، ولو أقرت به لم ثبت.

وَالْمَجْنُونُ لَوْ أَوْلَدَ أَمَتَهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَوْ أَعْتِقَهَا لَمْ تَعْتِقْ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِعْلٌ وَالْآخَرَ قَوْلٌ. وَاسْتَوَى حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى فِعْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ فِيمَنْ كَانَ حَرْبِيًّا فَيُدْعَى بِالسَّيْفِ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَهُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِكْرَاهُ الذِّمِّيِّ الْبَاذِلِ لِلْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ظُلْمًا، فَلَمْ يَصِحَّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>