للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فِيهِ لِعِلْمِهِ بأنه مسكر، وشربه له مختار، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ.

وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُجَاهِدٍ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَدَاوُدَ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَحَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي ظِهَارِ السَّكْرَانِ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ يَقَعُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ.

وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ وَحُكْمُ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فِي الْوُقُوعِ وَالسُّقُوطِ وَاحِدٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ الْمُزَنِيُّ بِنَقْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ، وَلَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ لَا يَقَعُ؟ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ ضَابِطًا لِمَا يَنْقُلُهُ وَيَحْكِيهِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ، وَلَيْسَ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ يَقَعُ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا، فَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ بِمَذْهَبَيْهِ فِيهِ أَعْرَفُ، وَيَجُوزُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ الْمُزَنِيُّ أَنْ يَكُونَ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ، بِأَنَّهُ مَفْقُودُ الْإِرَادَةِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ. وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالصَّغِيرِ وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ.

وَالثَّانِي: وُقُوعُ طَلَاقِهِ.

فَأَمَّا ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] .

فَدَلَّتْ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَتُهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَنِدَائُهُمْ بِالْإِيمَانِ وَلَا يُنَادَى بِهِ إِلَّا لَهُ.

وَالثَّانِي: نَهْيُهُمْ فِي حَالِ السُّكْرِ أَنْ يَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَلَا يُنْهَى إِلَّا مُكَلَّفٌ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ شَاوَرَهُمْ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَقَالَ: أَرَى النَّاسَ قَدْ بَالَغُوا فِي شُرْبِهِ وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ، فَمَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ، فَحَدَّهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ

<<  <  ج: ص:  >  >>