للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَلِيٌّ ثَمَانِينَ، فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عِلَّةٌ لِافْتِرَائِهِ فِي سُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَمَا حُدَّ بِمَا أَتَاهُ وَلَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ وَفِي مُؤَاخَذَتِهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ كَالصَّاحِي. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي الْأَصْلِ، فَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَطَبَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَبِيهَا خُوَيْلِدٍ وَهُوَ سَكْرَانُ وَدَخَلَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَا يُزَوِّجُ نَشْوَانُ وَلَا يُطَلِّقُ إِلَّا أَجَزْتُهُ) وَهَذَا نَصٌّ.

وَلِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِسُكْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِمَا حَدَثَ عَنْ سُكْرِهِ، أَلَا ترى أن من جنى حناية فَسَرَتْ لَمَّا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا، كَانَ مُؤَاخَذًا بِسِرَايَتِهَا، فَإِنْ قِيلَ فَلَيْسَ السُّكْرُ مَنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَكَيْفَ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَمُؤَاخَذًا بِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ فِعْلِهِ. فَصَارَ مَا حَدَثَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ، كَمَا أَنَّ سَرَايَةَ الْجِنَايَةِ لَمَّا حَدَثَتْ عَنْ فِعْلِهِ، نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، لِأَنَّ رَفْعَ الطَّلَاقِ تَخْفِيفٌ وَرُخْصَةٌ، وَإِيقَاعَهُ تَغْلِيظٌ وَغَرِيمَةٌ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الصَّاحِي وَلَيْسَ بِعَاصٍ، كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ السَّكْرَانِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَيْسَ يُسْتَدَلُّ عَلَى سُكْرِهِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ، هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الْخَبَرِ وَرُبَّمَا تَسَاكَرَ تَصَنُّعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ يَقِينِ الْحُكْمِ السَّابِقِ، بِالتَّوَهُّمِ الطَّارِئِ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ عِلْمٌ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَى فَقْدِ الْإِرَادَةِ هُمَا فِيهِ مَعْذُورَانِ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُكْرَهَ وَالْمَجْنُونَ غَيْرُ مُؤَاخَذَيْنِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ، فَلَمْ يُؤَاخَذَا بِمَا حَدَثَ فِيهِمَا، كَمَا أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فَسَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ، لَا يُؤَاخِذُهُ بِالسِّرَايَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِالْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالْقَطْعِ لَكَانَ مُؤَاخَذًا بِالسَّرَايَةِ، كَمَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِالْقَطْعِ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَالصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ وُقُوعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه:

أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: الْعِلَّةُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ أَنَّهُ مُتَّهِمٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ سُكْرُهُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُغَلَّظَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَدِينًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>