للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يجمعون بينها لقوة شدتها وكثرة لذتها وَيُسَمُّونَهُ نَبِيذَ الْخَلِيطَيْنِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ جَمْعَهَا يُعَجِّلُ حُدُوثَ السُّكْرِ مِنْهَا لِيَدُومَ عليهم مكث ما لا يسكر إن انْفَرَدَ، وَلَا يُتَعَجَّلُ إِسْكَارُهُ إِذَا اجْتَمَعَ.

فَهَذِهِ دَلَائِلُ النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ فَأَمَّا دَلَائِلُ مَا يُوجِبُهُ الِاعْتِبَارُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ فَمِنْ وُجُوهٍ.

مِنْهَا: الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ: أَنَّ الْخَمْرَ سُمِّيَ خَمْرًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ.

إِمَّا لِأَنَّهُ خَامَرَ العقل أي غطاه. وهو قول عمر.

أو لِأَنَّهُ يُخَمّرُ أَيْ يُغَطّى، وَمِنْ أَيِّهِمَا اشْتُقَّ فهو فِي النَّبِيذِ، كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ فَوَجَبَ أَنْ يشترك فِي الِاسْمِ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا لِمَنْ بَقِيَتْ فِيهِ نَشْوَةُ السُّكْرِ: مَخْمُورًا، اشْتِقَاقًا مِنَ اسْمِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ نَبِيذٍ أَوْ خَمْرٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ لافترقا في الصفة فقيل له في نشوة النبيذ: منبوذاً، كما قيل له في نشوة الخمر: مخموراً.

فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: فِي خَلِّ الْعِنَبِ: خَلَّ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي خَلِّ التَّمْرَ: خَلَّ الْخَمْرِ. فَإِنْ دَلَّ مَا نُصَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ دَلَّ هَذَا عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ.

قِيلَ: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَجَازٌ، وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ يَسْتَمِرُّ فِيهَا قِيَاسٌ، وَيَصِحُّ فيها اشتقاق؛ ولأن خَلَّ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا، وَإِنْ حَدَثَ عن العنب، كما لا يسمى التَّمْرُ نَبِيذًا، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ التَّمْرِ، وَلَوْ كان لهذه العلة سمي خمر الْعِنَبِ: خَلَّ الْخَمْرِ لَوَجَبَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يُسَمَّى خَلُّ التَّمْرِ خَلَّ النَّبِيذِ، وَفِي فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ بُطْلَانُ هَذَا التَّعَارُضِ.

وَمِنْهَا الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنَّ الْخَمْرَ مُخْتَصٌّ بِمَعْنَيَيْنِ، صِفَةٍ بِخَلِّهِ وَهِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَتَأْثِيرٍ يَحْدُثُ عَنْهُ وَهُوَ السكر يثبت بها اسم الخمر وتحريمه ويزول بارتفاعها اسْمُ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَصِيرًا لَيْسَ فِيهِ شِدَّةٌ، وَلَا يَحْدُثُ عَنْهُ إِسْكَارٌ، ولم يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ وَإِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَصَارَ مُسْكِرًا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، وجرى عليه حكمه في التحريم.

فإذا ارْتَفَعَتِ الشِّدَّةُ وَزَالَ عَنْهُ الْإِسْكَارُ، ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ بِالصِّفَةِ وَالتَّأْثِيرِ دُونَ الْجِنْسِ، وَقَدْ وُجِدَتْ صِفَةُ الشِّدَّةِ وَتَأْثِيرُ السُّكْرِ فِي النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَحُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ وَلِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ، كَذَلِكَ ما جلبته الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>