للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحَدُهُمَا: إنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ إِخْبَارًا لَهُمْ بِمُعْتَقَدِهِ ثُمَّ هُوَ فِي الْجَوَابِ لَهُمْ، وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ

وَالثَّانِي: إنَّهُمْ مَا حَاجُّوهُ طَلَبًا لِلْحَقِّ، فَيَلْزَمُهُ الْجَوَابُ، وَإِنَّمَا حَاجُّوهُ إِظْهَارًا لِلْعِنَادِ، فَجَازَ لَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ بِمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ.

فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على هذا مرة مُقَامِهِ بِمَكَّةَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَضْعُفُ عَنْهُ وَكَانَتْ رِسَالَتُهُ مُخْتَصَّةً بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ.

وَالثَّانِي: مَا يَشْرَعُهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ.

ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، ظَهَرَتْ لَهُ بِهَا قُوَّةٌ، فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، وَيَكُفَّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ فَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: ١٩٠] .

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ: أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَالْكَفِّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُمْ

وفي قوله تعالى: {ولا تعتدوا} تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا تَعْتَدُوا بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْكُمْ.

وَالثَّانِي: لَا تَعْتَدُوا بِالْقِتَالِ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ فَكَانَ هَذَا قِتَالُ دَفْعٍ، وَهِيَ الْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يجازي ولا يبتدىء، فَلَمَّا مَضَتْ بِهِ مُدَّةٌ ازْدَادَتْ فِيهَا قُوَّتُهُ وَكَثُرَ فِيهَا عَدَدُهُ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى حَالَةٍ ثَالِثَةٍ أَذِنَ لَهُ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ رَأَى إِذْنًا خَيَّرَهُ فِيهِ وَلَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: ٣٩] . فَلَمْ يَقْطَعِ الْإِخْبَارَ بِنَصْرِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحَتِّمْ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا فَرَضَ الْجِهَادَ قَطَعَ بِنَصْرِهِمْ، فَقَالَ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: ٤٠] . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخَيَّرًا بَيْنَ الْكَفِّ وَالْقِتَالِ، فَأَسْرَى سَرَايَا وَغَزَا بَدْرًا وَهُوَ فِي الْجِهَادِ مُخَيَّرٌ، وَلِذَلِكَ خَرَجَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ مَنْ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ مَعَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ، لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ فِي أَوَامِرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجِهَادُ فَرْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لِمَا يُصْلِحُكُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاحِ بِالْحَيَاةِ.

وَالثَّانِي: لِمَا تَدُومُ بِهِ حَيَاتُكُمْ فِي الْجَنَّةِ بِالْخُلُودِ فِيهَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى هَذَا التَّخْيِيرِ حَتَّى قَوِيَ أَمْرُهُ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَقَوِيَتْ نُفُوسُ أَصْحَابِهِ بِمَا شاهدوه من

<<  <  ج: ص:  >  >>