فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ اشْتَرَطَ رَدَّهُنَّ مَعَ إِبَاحَتِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هُدْنَتِهِ، فَلَا مَهْرَ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدِّهَا عَلَيْهِ؛ لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ تَحْرِيمِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حَظْرَهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَشْتَرِطْ رَدَّهُنَّ أَوْ شَرَطَهُ سَهْوًا أَوْ مُضْطَرًّا وَجَبَ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ فِي هُدْنَةِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ الرُّجُوعُ بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّ رَدَّهُنَّ فِي الْحَالَيْنِ مَحْظُورٌ، وَالشَّرْطَ فِيهِمَا مَمْنُوعٌ، فَصَارَ الْقَوْلَانِ فِي رَدِّ الْمَهْرِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى هَذَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا مَهْرَ لَهُ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ غَيْرُ زَوْجِهَا أهلها لَمْ يَرْجِعْ بِهِ زَوْجُهَا كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا لَمْ تَرْجِعْ زَوْجَةُ مَنْ أَسْلَمَ بِمَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنَ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ لَا
يرجع زوج من أسلمت بما دفعه المهر، لتكافؤهما فِي النِّكَاحِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْمَهْرِ؛ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: ١٠] ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْجَمِيعِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ قَدْ أَوْجَبَ الْأَمَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَيَضَعُ الزَّوْجَةَ فِي حُكْمِ الْمَالِ؛ لِصِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ نِكَاحًا وَخُلْعًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ مَهْرِهَا مُعْتَبَرًا بِتِسْعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ لَهَا زَوْجُهَا، فَإِنْ طَلَبَهَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا، فإن ادعى زوجتها فَصَدَّقَتْهُ قُبِلَ قَوْلُهَا، وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِنْ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدَانِ بِنِكَاحِهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَاقَ إِلَيْهَا مَهْرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ لَمْ يَسْتَحِقُّهُ، وَقَوْلُهَا فِي قَبْضِهِ مَقْبُولٌ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى غَيْرِهَا، وَطُولِبَ الزَّوْجُ بِالْبَيِّنَةِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْمَهْرِ حَرَامًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ مِثْلٌ، وَلَا قِيمَةٌ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ هَاجَرَتْ بِإِسْلَامِهَا إِلَى بَلَدِ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ وَفِي هَذَا النَّائِبِ عَنْهُ وَجْهَانِ: