أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، فإن كان قَدْ فَعَلَ مَا أَثْبَتَ وَتَرَكَ مَا نَفَى فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ بِرِّهِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَثْبَتَهُ وَفَعَلَ مَا نَفَاهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَكَلْتُ، وَلَمْ يَأْكُلْ، أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ وَقَدْ أَكَلَ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ عَاصٍ آثِمٌ، وَتُسَمَّى الْيَمِينَ الْغَمُوسَ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ الْحَالِفَ بِهَا فِي الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: فِي النَّارِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ، وَوُجُوبُهَا مُقْتَرِنٌ بِعَقْدِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللًّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْماَنَ) {المائدة: ٨٩) وَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ هِيَ اللَّغْوُ، وَالْعَفْوُ عَنْهَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩] وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَا الْتَزَمَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ، فَخَرَجَتِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مِنَ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ بِهَا كَفَّارَةٌ، ثُمَّ خَتَمَ الآية بقوله: {وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ} يَعْنِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مِنَ الْحِنْثِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امرئٍ مسلمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ مِنْ أَهْلِهَا ". فَأَخْبَرَ بِحُكْمِهَا وَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ فِيهَا.
وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى ماضٍ فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ كَاللَّغْوِ.
وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَحْظُورَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِهَا؛ لِأَنَّ حُدُوثَهُ فِيهَا يَدْفَعُ عَقْدَهَا كَالرَّضَاعِ لَمَّا رَفَعَ النِّكَاحَ إِذَا طَرَأَ مَنْعَ انْعِقَادَهُ إِذَا تقدم.
ودليلنا: قوله اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ) {المائدة: ٨٩) بَعْدَ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ لُزُومَهَا فِي كُلِّ يَمِينٍ وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: ٢٢٥) وَلَغْوُ الْيَمِينِ مَا سَبَقَ بِهِ لِسَانُ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَقْصُودَةٌ، فَكَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهَا تُوجِبُ تَكْفِيرَهَا، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَةِ الْغَمُوسِ يَمِينًا بَطَلَ مَنْعُهُمْ