بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ) {التوبة: ٧٤) وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ) {التوبة: ٥٦) .
وَمِنَ الْقِيَاسِ: إِنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى قَصَدَهَا مُخْتَارًا؛ فَوَجَبَ إِذَا خَالَفَهَا بِفِعْلِهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْيَمِينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى بِرٍّ وَحِنْثٍ كَالْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ كَذِبًا كَانَ فِي الْيَمِينِ حِنْثًا كَالْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ الْمَاضِي كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.
وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمْ يَدْخُلْهَا وَهَذَا وِفَاقًا كَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَيْمَانِ أَعَمُّ فِي الْمَأْثَمِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَجِبُ فِيمَا يَأْثَمُ بِهِ وَلَا يَأْثَمُ، فَلَمَّا لَحِقَهُ الْمَأْثَمُ فِي الْغَمُوسِ كَانَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ} (البقرة: ٢٢٥) فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ مَا لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ اللَّغْوِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَيْمَانِهِ وَهُوَ مِنْ كَسْبِ قَلْبِ الْمَأْخُوذِ بِإِثْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: ٢٢٥) وَلَئِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ الْمُسْتَقْبَلَةُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ بِرٍّ وحنثٍ، فَالْغَمُوسُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ صِدْقٍ وَكَذِبٍ، فَصَارَتْ ذَاتَ حَالَيْنِ كَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْحَالَتَانِ.
أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ وَلَيَشْرَبَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ حَنِثَ لِوَقْتِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لِيَقْتُلَنَّ زَيْدًا، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ مَاتَ حَنِثَ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ وكذبٍ، لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ كَذَلِكَ يَمِينُ الْغَمُوسِ فِي الْمَاضِي.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) {المائدة: ٨٩) فَحِفْظُهَا قَبْلَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْلِفَ وَبَعْدَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْنَثَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(قَلِيَلُ الْأَلَايَا حافظٌ لِعَهْدِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا اكْتِفَاءٌ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حُكْمُ الْآخِرَةِ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا.