أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا أَمْرٌ لِأَنَّهُ كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَسِرُّ بِكَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُهُ فِيهَا فَرْضًا لَأَظْهَرَهَا كَمَا أَظْهَرَ أَقْوَالَهُ لِيَكُونَ الْبَلَاغُ بِهِمَا عَامًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيهَا فَرْضٌ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: ٦٣] وَالْأَمْرُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْفِعْلِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الْقَوْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: ٩٧] أَيْ فِعْلَ فِرْعَوْنَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(لَهَا أَمْرُهَا حَتَّى إِذَا مَا تَبَوَّأَتْ ... بِإِخْفَافِهَا بِتْنَا نُبَوِّئُ مَضْجَعًا)
يَعْنِي بِالْأَمْرِ أَفْعَالَ الْإِبِلِ فِي سَيْرِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ امْرَأَةً إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِيَسْأَلَهَا عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ اللَّهَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَأَعَادَ زَوْجَتَهُ لِتَسْأَلَ فَذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " هَلَّا أَنْبَأْتِهَا " فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ: لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ ".
فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي أَفْعَالِهِ.
( [إقرار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] )
:
وَأَمَّا إِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاسَ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَآنِيَةٍ وَمَقَاعِدَ فِي الْأَسْوَاقِ فَجَمِيعُهَا فِي الشَّرْعِ مُبَاحٌ.
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: ١٥٧] .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ خَارِجٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَدَاخِلٌ فِي الْمَعْرُوفِ.
وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الشَّرْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ بِالشَّرْعِ حَتَّى أَقَرُّوا عَلَيْهَا.