للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ خِلَافُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَتَّى قَالَ عَلَى مِنْبَرِهَا " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَيْعَهُنَّ جَائِزٌ " خِلَافًا وَجُعِلَ تَحْرِيمُ بَيْعِهِنَّ إِجْمَاعًا.

وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا مِنَ الْأَمْكِنَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٥٨] . وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِأَهْلِهِ لَا بِمَكَانِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ".

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ فِي طَلَبِ حَدِيثٍ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا عِنْدَهُ مِنْ دِيَةِ الْأَسْنَانِ؛ وَلِأَنَّ مَكَّةَ مَهْبِطُ الْقُرْآنِ وَمَقَامُ الرَّسُولِ بِهَا أَكْثَرُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ أَهْلُهَا فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَقَّ.

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ فِيهِ.

وَإِنْ تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِالْخِلَافِ فَلَهُ حَالَتَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ خِلَافَهُ نَصٌّ فَيَكُونُ خِلَافُهُ مُرْتَفِعًا وَالْإِجْمَاعُ بِغَيْرِهِ مُنْعَقِدًا كَمَا خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الصَّحَابَةَ فِي الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ وَخَالَفَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي الْقُنُوتِ الْمُسَمَّى بِسُورَتَيِ أُبَيٍّ حِينَ جَعَلَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَمَا ذَهَبَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الصَّوْمِ إِسْفَارُ الصُّبْحِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ نَصٌّ فَيَكُونُ خِلَافُهُ مَانِعًا مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعَصْرِ أَوْ مِنْ أَصْغَرِهِمْ سِنًّا، كَمَا خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَوْلِ فَقَالَ: " مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ " فَصَارَ خِلَافُهُ خِلَافًا، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ مُرْتَفِعًا.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: خِلَافُ الْوَاحِدِ لَا يَنْقُضُ الْإِجْمَاعَ وَيَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَنْ عَدَاهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ، قَدْ خَالَفَ أَبُو بَكْرٍ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ٢٦٩] .

<<  <  ج: ص:  >  >>