للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الذَّاتِ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي كُلِّفَ الْعِبَادُ طَلَبَهُ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحَقِّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَخْطَأَ فِي الْحَقِّ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.

وَشَذَّ عَنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ فَجَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ أُصُولَ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الذَّاتِ لَا تَخْتَلِفُ فَلَمْ يَصِحَّ تَجْوِيزُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَزْمَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُسَوَّغًا فِيهَا.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ: أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَفِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ وَفِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنُهَا حَيٌّ وَفِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ:

فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ اخْتِلَافِ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْجَمِيعِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيِّنٌ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا وَحَرَامًا؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ لِشَخْصٍ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِتَنَافِيهِ وَتَنَاقُضِهِ، وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ أَمْ لَا.

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ، فَمَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَخْطَأَ فِي الْحُكْمِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَكُنِ الْمُصِيبُ إِلَّا وَاحِدًا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>