وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: ٧٥] فَالْأَمِينُ عَلَى الْقِنْطَارِ هُوَ عَلَى الدِّينَارِ آمَنُ، وَالْخَائِنُ فِي الدِّينَارِ هُوَ فِي الْقِنْطَارِ أَخْوَنُ.
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْقِيَاسِ هُوَ أَقْرَبُ وُجُوهِ الْقِيَاسِ إِلَى النُّصُوصِ لِدُخُولِ فُرُوعِهَا فِي النُّصُوصِ.
وَأَنْكَرَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّرْبُ قِيَاسًا.
وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَصًّا وَجَعَلَهُ آخَرُونَ تَنْبِيهًا.
وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ هَذَا قِيَاسًا. وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَفْهُومَ الْخِطَابِ وَسَمَّاهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ فَحْوَى الْكَلَامِ.
وَأَنْكَرُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا.
قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا خَفِيَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَمَا خَرَجَ عَنِ الْخَفَاءِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ وَهَذَا الْإِنْكَارُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّصَّ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنِ اسْمِهِ وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنِ اسْمِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَاهُنَا: لِأَنَّ اسْمَ التَّأْفِيفِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ كَمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى غَيْرِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَصَارَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَأْخُوذًا مِنْ مَعْنَى التَّأْفِيفِ لَا مِنِ اسْمِهِ. فَإِنِ امْتَنَعُوا أَنْ يُسَمُّوهُ قياسا فقد سلموا معنا وَخَالَفُوا فِي اسْمِهِ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الِاسْمِ مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى مُطْرَحَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعَانِيَ تَتَنَوَّعُ: فَيَكُونُ بَعْضُهَا جَلِيًّا تَسْبِقُ بَدِيهَتُهُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَبَعْضُهَا خَفِيًّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَتَنَوَّعُ فَيَكُونُ بَعْضُهَا وَاضِحًا تَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَبَعْضُهَا غَامِضًا تَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ دُونَ الْعَامَّةِ، كَنَهْيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَاءُ وَقَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ: " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ "، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ فِي الْوُضُوحِ وَالْغُمُوضِ مَانِعًا مِنْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا نُصُوصًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا قِيَاسًا.
فَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ.