قَالُوا وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَحْكَامٍ عَدَلُوا عَنِ الْأُصُولِ فِيهَا إِلَى الِاسْتِحْسَانِ، مِنْهَا دُخُولُ الْوَاحِدِ إِلَى الْحَمَّامِ، يَسْتَعْمِلُ مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيَقْعُدُ فِيهِ زَمَانًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيُعْطِي عَنْهُ عِوَضًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيَشْرَبُ مِنَ السَّاقِي مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ وَيُعْطِي عَنْهُ عِوَضًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ فِيهِ بِبَدَلٍ وَقَبُولٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَقَدْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ اسْتِحْسَانًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الِاحْتِجَاجِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: ٥٩] فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ فِي التَّنَازُعِ مَا كَانَ مَأْخُوذًا عَنْ أَوَامِرِ الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَفَى بِالتَّنَازُعِ قُبْحًا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: ٨٣] فَنَفَى الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ. وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى مَعَانِي الْأُصُولِ دُونَ الظَّنِّ والاستحسان.
ولأن في الظن والاستحسان اتباع لِهَوًى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: ٢٦] .
وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَجَبَ اتِّبَاعُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠] وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ بِالدَّلِيلِ يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
وَالِاسْتِحْسَانُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوقِعُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافا كبيرا} [النساء: ٨٢] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ بِالْعَقْلِ مُغْنِيًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ لَاسْتَغْنَى بِعَقْلِهِ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَجَازَ لَهُ أَنْ يُشَرِّعَ فِي الدِّينِ بِعَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: ٧٦] يَعْنِي: غَيْرَ مَأْمُورٍ وَلَا مَنْهِيٍّ.
وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْسَانِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ.