للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ دَلِيلًا لَجَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي تَرْكِ الِاسْتِحْسَانِ دَلِيلًا فَيَؤُولُ إِثْبَاتُهُ إلى إبطاله.

(الجواب على أدلة القائلين به)

فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: {الذي يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: ١٨] فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ وَالْأَحْسَنُ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَالْمُسْتَحْسَنُ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْغَيْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا فَافْتَرَقَا، وَلَزِمَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ.

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابِ الْمَعَاصِي فَيَتَّبِعُونَ الْأَحْسَنَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ.

وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ١٧٨] فَجُعِلَ لَهُ الْقِصَاصُ وَنُدِبَ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ فَكَانَ الْعَفْوُ أَحْسَنَ مِنَ الْقِصَاصِ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُرَادُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يُرِيدَ مَا رَآهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ حَسَنًا فَهُوَ الْإِجْمَاعُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ.

أَوْ يُرِيدُ مَا رَآهُ بَعْضُهُمْ حَسَنًا فَلَيْسَ بَعْضُهُمُ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الَّذِي اسْتَقْبَحَهُ وَهَذَا يَتَعَارَضُ فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِجْمَاعِ دُونَ الِاخْتِلَافِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى اسْتِحْسَانِ مَا خَالَفَ الْأُصُولَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا انْعَقَدَ فَصِرْنَا إِلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَرَاضَى بِهِ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَتَسَامَحُوا بِهِ فِي عُرْفِهِمْ لَمْ يُعَارِضُوا فِيهِ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الرِّبَا وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ، وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِيهِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُوجَبِ الْأُصُولِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِحْسَانَ، وَقَالَ بِهِ فِي مَسَائِلَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>