وَالثَّانِي: إِنَّهُ سَمِعَ شَهَادَةَ الزُّورِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بُزُورٍ، كَمَا يَسْمَعُ شَهَادَةَ الْعَبْدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَبْدٍ، فَلَمَّا كَانَ خَطَؤُهُ فِي الْعَبْدِ مُبْطِلًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَطَؤُهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ مُبْطِلًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَاسِقًا وَحُكْمُهُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَرْدُودٌ فِي الْحَالَيْنِ نَصًّا، وَرَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فِي الْحَالَيْنِ اجْتِهَادًا، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ إِنَّ الْحُكْمَ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الشَّهَادَةِ كَمَا يَبْطُلُ إِذَا خَالَفَ بِاجْتِهَادِهِ نصا، فلما كان فساده مخالفة النَّصِّ يَبْطُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فساد بِشَهَادَةٍ مُوجِبًا لِإِبْطَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا خَالَفَ النَّصَّ لَا يَكُونُ حُكْمًا.
قِيلَ: وَكَذَلِكَ مَا أَمْضَاهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَكُونُ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَةِ زُورٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا ضعف إسناده.
والثاني: أنه لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَ الشُّهُودِ، فَلَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُمْ، وَالْخِلَافُ إِذَا عَلِمَهَا.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُمْ لَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى قَوْلِهِ: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْحَاكِمَ مُزَوِّجًا لَهَا دُونَ الشَّاهِدِ، وَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ يَقْضِي فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ، فَإِذَا حَكَمَ لِرَجُلٍ بِشَاهِدَيْنِ، قَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ حُكْمِي لَا يُبِيحُ لَكَ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكَ، وَلَوْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ فِيهِ لَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شَهَادَةِ الصِّدْقِ فَهُوَ اسْتِحَالَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْقَبُولِ؛ لِقَبُولِ الصِّدْقِ وَرَدِّ الْكَذِبِ وَنُفُوذِ الْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْجَهْلِ بِالْكَذِبِ، وَلَوْ عَلِمَ لَمَا نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا لَمْ يَنْفُذْ فِي الْبَاطِنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللِّعَانِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَنْفُذْ بِالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا نَفَذَ بِاللِّعَانِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ اللِّعَانَ اسْتِئْنَافُ فُرْقَةٍ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، إِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِفُرْقَةٍ سَابِقَةٍ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَمْ يَصِحَّ تَنْفِيذُ مَعْدُومٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ أَنْ لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَخَالَفَ شَهَادَةَ الزُّورِ الَّتِي تُخَالَفُ الظَّاهِرُ فِيهَا الْبَاطِنَ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَسَنَشْرَحُ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ حكمه.