للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَغْلِيظَهَا بِالْعَدَدِ، وَاللَّفْظِ، وَمَنَعَ مِنْ تَغْلِيظِهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَاسْتَبْدَعَهُ مِنَ الْحُكَّامِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فأطلق اليمين، كما أطلق البينة، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ كَمَا حُمِلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ وَلِأَنَّ اليمين حُجَّةَ الْمَطْلُوبِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الطَّالِبِ. فَلَوْ جَازَ التَّغْلِيظُ فِي حُجَّةِ أَحَدِهِمَا لَجَازَ فِي حُجَّتِهِمَا، لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَفِي سُقُوطِهَا مِنْ حُجَّةِ الطَّالِبِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهَا مِنْ حُجَّةِ الْمَطْلُوبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَغْلِيظُهُمَا فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ لَجَازَ تَغْلِيظُهُمَا فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي الْكَثِيرِ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْقَلِيلِ، كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّغْلِيظُ فِي الْقَلِيلِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْكَثِيرِ.

وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي (وَرُوِيَ: عَلَى مِنْبَرِي) بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ولو قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ ".

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِالْمِنْبَرِ مَشْرُوعٌ، وَالْحَالِفُ عِنْدَهُ مَزْجُورٌ، وَلِأَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ بِهِ شَائِعٌ، وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهِ مُنْعَقِدٌ.

رَوَى الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِنْ أَبْعَثَ إِلَيْهِ بِقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ فِي وِثَاقٍ، فَبَعَثْتُ بِهِ، فَأَحْلَفَهُ فِي قَتْلٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَمْسِينَ يَمِينًا.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي أَرْضٍ، فَحَلَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَهَبَ لَهُ الْأَرْضَ بَعْدَ يَمِينِهِ. وَأَحْلَفَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ فِي الْحِجْرِ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاتَّقَاهَا، وَدَفَعَ الْمَالَ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُوافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ، فَيُقَالَ: بِيَمِينِهِ ".

وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُطِيعٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ اخْتَصَمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى زَيْدٍ، فَأَمَرَهُ مَرْوَانُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَمْتَنِعُ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، فَامْتَنَعَ، وَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ من ذلك ".

<<  <  ج: ص:  >  >>