قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ حَبْسَ الْيَمِينِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ في جارية ضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَحْبِسَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَقْرَأَ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: ٧٧] فَفَعَلْتُ، فَاعْتَرَفَتْ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى قَوْمًا يَحْلِفُونَ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، فَقَالَ: أَعْلَى دَمٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَهْزَأَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فِيهِ عَلَى الدَّمِ، وَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ، فَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ فَإِنْ قِيلَ: امْتِنَاعُ زَيْدٍ مِنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَارْتِفَاعِ الْإِجْمَاعِ قِيلَ: لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا لِلتَّوَقِّي دُونَ الْخِلَافِ، وَلَوْ لَمْ يَرَهُ جَائِزًا، لَأَنْكَرَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ أَفْعَالِهِ، فَيُطِيعُهُ مَرْوَانُ، حَتَّى قَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِمَشْهَدِ الْمَلَأِ: إِنَّكَ أَحْلَلْتَ الرِّبَا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَعَاذَ اللَّهِ! ، فَقَالَ زَيْدٌ: إِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ الْأَمْلَاكَ بِالصُّكُوكِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوا، فَوَجَّهَ مَرْوَانُ مُسْرِعًا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِزَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} : إِنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَيْمَانِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدَيِّ بْنِ زَيْدٍ.
أَوْ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، والزمان والمكان أزجر، فكان بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَيْمَانِ أَجْدَرَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَغْلِيظُهَا بِالْعَدَدِ وَاللَّفْظِ، جَازَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ وُجُوبُ الْيَمِينِ دُونَ صِفَتِهَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَشْهَدُ بِحَقٍّ لَهَا، فَارْتَفَعَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا، فَاسْتَغْنَتْ عَنِ الزَّجْرِ، وَالْحَالِفُ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ زَجْرَ الْبَيِّنَةِ يُفْضِي إِلَى تَوَقُّفِهَا عَنْ مَا لَزِمَهَا مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ يُخَالِفُ بِهَا حُكْمَ الْحَالِفِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْقَلِيلَ يُكْتَفَى فِي الزَّجْرِ عَنْهُ بِالْيَمِينِ، وَالْكَثِيرُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْيَمِينِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَزْجُرُ عَنِ الكثير.