وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْبَسُ الْمُرَقَّعَةَ. وَيَهْنَأُ بِعِيرَهُ بِيَدِهِ وَيَقُودُهُ.
وَقَدِ اشْتَرَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَمِيصًا وَأَتَى تَجَّارًا فَوَضَعَ كُمَّهُ وَقَالَ: اقْطَعْ مَا فَضَلَ عَنِ الْأَصَابِعِ، فَقَطَعَهُ بِفَأْسٍ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ كَفَفْتَهُ؟ فَقَالَ دَعْهُ يَتَسَلَّلْ مَعَ الزَّمَانِ.
وَعَمِلَ بِالْأَجْرِ فِي حَائِطٍ وَأَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيَّةٍ لِيَسْقِيَ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ.
وَمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه وجاز، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ، لِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَرْءِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ فَصَارَتِ الْإِشَارَةُ بِهَا إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ، فَانْتَفَتِ الْعَدَالَةُ عَنْ مَنْ لَا إِنْسَانِيَّةَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مِنْ دَوَاعِي الْحَيَاةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْمُرُوءَةِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَدَالَةِ، ولأن الْمُرُوءَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَرْءِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، فَصَارَتِ الإشارة بها للإنسانية، فَانْتَفَتِ الْعَدَالَةُ عَنْ مَنْ لَا إِنْسَانِيَّةَ فِيهِ، ولأن حفظ المروءة من دواعي الحياء. وإن كان لا يَفْسُقُ بِهِ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ لِلْفَضِيلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا، وَهِيَ تَالِيَةٌ لِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: ٤١] .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: ١٤٣] .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هم بشهاداتهم قائمون أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: ٣٣، ٣٥] .
وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْفَضِيلَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَرْسِلًا فِي الْبَذْلَةِ. وَلَيْسَ مَا فَعلَّهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بَذْلَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُرْفِ أَهْلِهِ فِي الزَّهَادَةِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنَ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ".
وَلِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الْبَذْلَةِ وَالْعُدُولَ عَنِ الصِّيَانَةِ دَلِيلٌ عَلَى اطِّرَاحِ الصِّيَانَةِ وَالتَّحَفُّظِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَقِلَّ تَحَفُّظُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ نَشَأَ عَلَيْهَا مِنْ صِغَرِهِ لَمْ تقدح في عدالته وإن