وَتَأْثِيرُ نَسْخِ الشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ فِي الكراهة دون التحريم، فمن ذهب إلى أنها مَنْسُوخَة كَرِهَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهَا إِلَّا مَا يُسْكِرُ وَمَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ لَمْ يَكْرَهْ شُرْبَ مَا لَا يُسْكِرُ مِنْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ.
وأما الجواب عن آثار الصحابة رضي الله عنهم فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ مَا يُخَالِفُهُ. وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَشْبَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ، وَشَرِبَ عُمَرُ مِنْ إِدَاوَةٍ حَدَّ شَارِبَهَا فَلِأَنَّ عُمَرَ شَرِبَ قَبْلَ إِسْكَارِهَا، وَشَرِبَ الرَّجُلُ بَعْدَ إِسْكَارِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ شُرْبِ ابن أبي ليلى عند علي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بالمعاني: بِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ النَّبِيذِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي الِاسْمِ وَالتَّحْرِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمٍ يَجِبُ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي كُلِّ حُكْمٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ وَافْتَرَقَا عِنْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْيَسِيرِ، وَلَمْ يَكُنِ الفرق في الْيَسِيرِ مَانِعًا مِنَ التَّسَاوِي فِي الْكَثِيرِ. كَذَلِكَ لَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِي التَّكْفِيرِ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّسَاوِي فِي التَّحْرِيمِ مَعَ الِافْتِرَاقِ فِي التَّكْفِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّكْفِيرِ فَيُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الْكَبَائِرِ وَلَا يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الصَّغَائِرِ، كَذَلِكَ الْخَمْرُ والنبيذ لا يمنع افتراقهما في التكفير استواءهما فِي التَّحْرِيمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ التَّكْفِيرُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِزَوَالِ التَّكْفِيرِ فِي اسْتِحْلَالِ النَّبِيذِ عَلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا دَلَّ التَّكْفِيرُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْخَمْرِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي التَّكْفِيرِ ارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ عَمَّا اسْتُحِلَّ مِنَ الْحَرَامِ وهذا موجود في الخمر، معدوم فِي النَّبِيذِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ النبيذ النيء محرم، ولا يكفر مستحلة.
والجواب على أن مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَيَانِ لَا فِي النَّقْلِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ الْبَيَانُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو طلحة بالنداء وهو على شراب، فَأَمَرَ أَنَسًا بِإِرَاقَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ وَالْبَيَانَ مَعًا مُسْتَفِيضَانِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ فِي الْبَيَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نص الكتاب في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}