للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حاجة لي فيه. وكنت بمكة شاباً، وإلى جانبي جندي، فلما كان الليل سمعته يقدح، وبيننا كوة، فأغمضت عيني ليلتي كلها.

وكان يقول: الدنيا دار أسبابٍ، من زعم أن التوكل إسقاط السبب بالكلية فهو غالط.

وقال: قال لي صوفي: نحن ما نرى الأسباب، فقلت له: ما صدقت لو صفع الأبعد إنسانٌ أكنت لا تراه البتة ولا يؤثر فعله فيك؟ فسكت، فقال: أما أنا فأرى الأسباب لكن ما أقف عندها.

خرج إلى الشيخ وزير والساقية تدور بالدولاب، فأراد أن يبسط المجلس فقال: يا سيدي أيش ترى في بغلتي ندورها في الساقية؟ فقال له: ولا أنت ما أرى أن أدورك فيها. فانبسط الرجل؛ ثم قال الشيخ على عادته: ارحلوا. فقال الوزير: لماذا تطردنا؟ قال: لأن القعود معكم ضياع.

وخرج إليه أكابر فقال، واحدٌ منهم: هذا طبيب السلطان، يعني الكامل، فقال الطبيب: ما نحن أطباء بل نحن أعِلاء، إنما الأطباء الأولياء. قال الشيخ: وأشار إلي. فلم أقره فقلت: اعلم أن مثل المشار إليه بالولاية كمثل الطبيب، كم علل من عليل فما أفاد. أما داويت أحداً فمات، ولم ينجع فيه الدواء؟ فقال: كثير. فقلت: وكذا الجانب الآخر.

وكان يرى أن ترك التسبب والاعتماد على الفتوح غلط، ويقول: انتقل من سبب نظيفٍ إلى سببٍ وسخ. وذلك لأن الاحتراف سبب شرعي، والكدية سببٌ مذموم، وليته يبسط يده خاصة، ولكنه يقول: أنا صالح فأعطوني. ترى ماذا يبيعهم إن باعهم عمله فبيع الدّين بالدنيا كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، لعله عند الخاتمة يوجد مفلساً، فالحبس أولى به. وصدق الشيخ، قال بعض المشايخ: من قعد في خانقاه فقد سأل، ومن لبس مرقعة ً فقد سأل، ومن بسط سجادةً فقد سأل.

وقال: هممت بمكة بالتجرد وبيع الأملاك وإنفاقها، ثم التحول إلى الشام، والاقتناع بمباح الجبال، فسألت فصح عندي أنه ليس في الجبال ما يقيم البنية دائماً، فقلت: ما بيدي أنظف من الحاجة إلى الناس. أردت أن أعيش فقيراً ذليلاً، وأراد الله لي أن أعيش غنياً عزيزاً، فله الحمد. وعزمت على

<<  <  ج: ص:  >  >>