للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن كلامه في كتاب فصوص الحكم (١) قال: اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزه، إما جاهلٌ وإما صاحب سوء أدب، ولكن إذا أطلقاه، وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه، ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب، وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر، وهو كمن آمن ببعضٍ وكفر ببعض، ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت به إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في موضع ذلك اللسان، فإن للحق في كل خلقٍ ظهورًا، فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن، فنسبته لما ظهر عن صور العالم نسبة الروح المدبرة للصورة، فتوجد في حد الإنسان مثلًا باطنة وظاهرة، وكذلك كلٌ محدود، فالحق محدودٌ بكل حدٍ، وصور العالم لا تنضبط، ولا يحاط بها، ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صوره، ولذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة وهذا محال. وكذلك من شبهه وما نزهه، فقد قيده وحدده وما عرفه. ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه، وصفه بالوصفين على الإجمال؛ لأنه يستحيل ذلك على التفصيل، كما عرف نفسه مجملًا لا على التفصيل. ولذلك ربط النبي معرفة الحق بمعرفة النفس، فقال: من عرف نفسه عرف ربه (٢). وقال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم - وهو عينك - حتى يتبين لهم - أي للناظرين - أنه الحق من حيث إنك صورته، وهو روحك، فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانًا ولكن يقال فيها: إنها صورةٌ تشبه صورة الإنسان، فلا فرق


(١) انظر الفصوص ١/ ٦٨ و ٧٢ و ٧٨ و ٨٣.
(٢) موضوع كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وسئل عنه الإمام النووي في "فتاويه" فقال: إنه ليس بثابت، وقال الزركشي في "الأحاديث المشتهرة": وقال ابن السمعاني في "القواطع": إنه لا يعرف مرفوعًا، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي، وقال السيوطي: ليس بصحيح. انظر "الحاوي" ٢/ ٤٥١ - ٤٥٢.