الحرب بين الفريقين شيئًا فشيئًا، وتراسلوا في الصلح غير مرة، فلم يتفق، وجرت لهم أمور طويلة، ثم التقى صدقة والسلطان في تاسع عشر رجب، فكانت الأتراك ترمي الرشقة عشرة آلاف سهم، فتقع في خيل العرب وأبدانهم، وبقي أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم نهر بين الفريقين من الوصول، ومن عبر إليهم لم يرجع، وتقاعدت عبادة وخفاجة شفقة على خيلها، وبقي صدقة يصيح: يا آل خزيمة، يا آل ناشرة، ووعد الأكراد بكل جميل لما رأى من شجاعتهم، وكان راكبًا على فرسه المهلوب، ولم يكن لأحد مثله، فجرح الفرس ثلاث جراحات، وكان له فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر، فلما رأى الترك قد غشوا صدقة هرب عليه، فناداه صدقة، فلم يرد عليه، وحمل صدقة على الأتراك وضرب غلاما منهم في وجهه بالسيف، وجعل يفتخر ويقول: أنا ملك العرب، أنا صدقة، فجاءه سهم في ظهره، وأدركه بزغش مملوك أشل، فجذبه عن فرسه فوقع، فقال: يا غلام، أرفق، فضربه بالسيف؛ قتله، وحمل رأسه إلى السلطان، وقتل من أصحابه أكثر من ثلاثة آلاف فارس، وأسر ابنه دبيس، وصاحب جيشه سعيد بن حميد.
وكان صدقة كثير المحاسن في الجملة، محببا إلى الرعية، لم يتزوج على امرأته، ولا تسرى عليها، وكان عنده ألوف مجلدات من الكتب النفيسة، وكان متواضعًا محتملًا، كثير العطاء.
وأما طرابلس، فلما طال حصارها، وقلت أقواتها، وعظمت بليتها ولا قوة إلا بالله، منَّ الله عليهم سنة خمسمائة بميرة جاءتهم في البحر، فتقووا شيئًا، واستناب فخر الملك أبو علي بن عمار على البلد ابن عمه، وسلف المقاتلة رزق ستة أشهر، وسار منها إلى دمشق؛ ليمضي إلى بغداد فأظهر ابن عمه العصيان، ونادى بشعار المصريين، فبعث فخر الملك إلى أصحابه، يأمرهم بالقبض عليه، ففعلوا به ذلك، واستصحب فخر الملك معه تحفًا ونفائس وجواهر وخيلا عربية، فاحترمه أمير دمشق وأكرمه، ثم سار إلى بغداد، فدخلها في رمضان قاصدًا باب السلطان، مستنفرًا على الفرنج، فبالغ السلطان محمد في احترامه، وكان يوم دخوله مشهودًا، ورتب له الخليفة الرواتب العظيمة، ثم قدم للسلطان التقادم، وحادثه السلطان في أمر قتال الفرنج، فطلب النجدة، وضمن الإقامة بكفاية العساكر، فأجابه السلطان.