مسالك العلماء في الظّواهر الّتي وردت في الكتاب والسُّنّة، وامتنع على أهل الحقّ اعتقاد فحواها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السُّنن، وذهب أئّمة السًّلف إلى الانكفاف عن التّأويل، وإجراء الظّواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرّبّ تعالى، والّذي نرتضيه رأيًا، وندين الله به عقدًا اتِّباع سلف الأمّة؛ فالأولى الاتِّباع وترك الابتداع، والّدليل السَّمعيُّ القاطع في ذلك أنّ إجماع الأمّة حجّة متّبعة وهو مستند معظم الشّريعة. وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التّعريض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام المستقلّون بأعباء الشّريعة، وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملَّة، والتّواصي بحفظها، وتعليم النّاس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشّريعة، فإذا تصرم عصرهم وعصر التّابعين على الإضراب عن التّأويل، كان ذلك قاطعًا بأنّه الوجه المتبَّع، فحقَّ على ذي الدّين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرّبّ فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} و {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وما صحّ من أخبار الرسول كخبر النّزول وغيره على ما ذكرنا.
وقال محمد بن طاهر الحافظ: سمعت أبا الحسن القيروانيّ الأديب بنيسابور، وكان يسمع معنا الحديث، وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي الجوينيّ، يقرأ عليه الكلام، يقول: سمعت الأستاذ أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنّ الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وحكى أبو عبد الله الحسن بن العبّاس الرُّستميّ فقيه أصبهان، قال: حكى لنا أبو الفتح الطَّبرّي الفقيه، قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أنّي قد رجعت عن كلّ مقالةٍ تخالف السَّلف، وأنّي أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور.
وذكر محمد بن طاهر أنّ المحدِّث أبا جعفر الهمذانيّ حضر مجلس وعظ أبي المعالي، فقال: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه. فقال أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة الّتي نجدها، ما قال عارفٌ قطّ: