للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجدت من أفتاني فيها إلا العِماد. وقيل: إنه كان إذا دخل الخَلاء فنسي أن يُسمّي، خرج فسمى ثم دخل.

وأما زهده، فما أعلم أنه قطّ أدخل نفسه في شيء من أمر الدنيا، ولا تعرّض لها، ولا نافس فيها. وقد كان يُفتح لأصحابنا بعض الأوقات بشيء فما أعلم أنه حضر يوماً قطّ عندهم في شيء من ذلك، وما علمت أنه دخل إلى عند سلطان ولا والٍ، ولا تعرّف بأحدٍ منهم، ولا كانت له رغبة في ذلك.

وكان قويّاً في أمر الله، ضعيفاً في بَدَنه، لا تأخذه في الله لومة لائم. وسمعته يقول لرجل: كيف ولدك؟ قال: يُقبِّل يدك. فقال: لا تكذب! وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا يرى أحداً يسيء صلاته إلا قال له وعلّمه. وبلغني أنه خرج مرّة إلى فُسّاق، فكسر ما معهم، فضربوه، ونالوا منه، حتى غُشي عليه، فأراد الوالي ضربهم، فقال: إن تابوا ولزِموا الصلاة فلا تؤذهم، وهم في حِلٍّ. فتابوا، ورجعوا عما كانوا عليه.

سمعتُ شيخنا موفّق الدين قال: من عُمري أعرفه - يعني العماد - وكان بيتنا قريباً من بيتهم - يعني في أرض القدس - ولما جئنا إلى هنا فما افترقنا إلا أن يسافر، ما عرفت أنه عصى الله معصية.

سمعت والدي يقول: أنا أعرف العماد من صِغره، وما أعرف له صَبوةً ولا جهلة.

وذكر شيخُنا أبو محمد عبد الرحمن بن عيسى البُزُورِيّ الواعظ شيخنا عماد الدين في طبقات أصحاب ابن المّنِّي، فقال: فَقهَ، وبَرَع، وكَملَ، وجمعَ بين العلم والعمل، أحد الورِعين الزُّهّاد، وصاحب ليلٍ واجتهادٍ، متواضعٌ، صَلِفٌ، ظريفٌ. قرأ القرآن بالقراءات، وله المعرفة الحسنة بالحديث، مع كثرة السماع، واليد الباسطة في الفرائض، والنحو، إلى غير ذلك من الفضائل، له الخطّ المليح المشرق بنور التقوى.

وليس لله بمستَنكَرٍ أن يَجمعَ العالم في واحدِ هذا مع طيب الأخلاق، وحُسن العِشرة، فما ذاق فم المودّة أعذب من أخلاقه، فسبحان من صبَّرني على فِراقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>