وفيها جهز نور الدين جيشًا عليهم أسد الدين شيركوه إلى مصر نجدة لشاور، لكونه قصده واستجار به. فأول دخولهم قتل الملك المنصور ضرغام الذي كان قد قهر شاور، وأخذ وزارة مصر منه في آخر العام الماضي. ثم تمكن شاور ولم يلتفت على شيركوه، فاستولى على بلبيس وأعمال الشرقية. وأرسل شاور يستنجد بالفرنج، فسارعوا إليه، وبذل لهم ذهبًا عظيمًا، فجاؤوا من القدس والسواحل، والتجأ شيركوه وعسكر الشام إلى بلبيس، وجعلها ظهرًا له، وحصروه ثلاثة أشهر ومنعته مع قصر سورها وعدم خندق لها. فبينا هم كذلك إذ أتاهم الصريخ أن نور الدين أخذ حصن حارم منهم وسار إلى بانياس، فسقط في أيديهم، فهموا بالعود إلى بلادهم ليحفظوها، وطلبوا الصلح مع شيركوه، فأجابهم لقلة الأقوات عليه، وسار إلى الشام سالمًا.
وفيها وقعة حارم، وذلك أن نجم الدين ألبي الأرتقي صاحب ماردين نازل حارم ونصب عليها المجانيق، فجاءتها نجدات الفرنج من كل ناحية، واجتمع طائفة من ملوكهم، وعلى الكل بيمند صاحب أنطاكية، فكشفوا عن حارم، وترحل عنها صاحب ماردين، فقصدهم نور الدين رضي الله عنه، فالتقى الجمعان، فحملت الفرنج على ميمنة الإسلام فهزمتها، فيقال: إنهم انهزموا عن خديعة قررت، فتبعتهم الفرنج الفرسان، فمال المسلمون من الميسرة، فحصدت رجالة الفرنج؛ ثم ردت الفرسان عليهم اللعنة، فأحاط بهم المسلمون، واشتدت الحرب، وطاب القتل في سبيل الله، وكثر القتل في الفرنج والأسر، فكان في جملة الأسرى سلطان أنطاكية، وصاحب طرابلس، والدوك مقدم الروميين، وابن جوسلين. وزادت عدة القتلى منهم على عشرة آلاف، فلله الحمد على هذا الفتح المبين.
ثم سار نور الدين بعد أن افتتح حارم، فافتتح قلعة بانياس في آخر السنة. وكان لها بيد الفرنج ستة عشر عامًا. ولما عاد منها إلى دمشق، قال ابن الأثير: كان في يده خاتم بفص ياقوت يسمى الجبل لكبره وحسنه، فسقط من يده في شعرة بانياس، فنفذ وراءه من فتش عليه فلقيه، فقال فيه بعض الشعراء: