ولَا عاصِمَ اليومَ من أمرِ اللَّه إلاّ من رَحِمَ، ولنا ذنوب قد سدَّت طريق دعائنا، فنحن أولى أن نلوم أنفسنا، والله قدر لا سلاح لنا في دفعه إلاّ: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. وقد أشرفنا على أهوال: قُل اللَّه ينجيكم منها ومن كل كرب. وقد جمع لنا العدو، وقيل لنا: اخشوه فنقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. وليس إلاّ الاستعانة بالله، فما دلنا في الشدائد إلاّ على طروق بابه، وعلى التضرع له {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} نعوذ بالله من القسوة، ومن القنوط من الرحمة، وما شرَّد الكرى، وطوَّل على الأفكار السَّرى، إلاّ ضائقة القوت بعكا. وهذه الغمرات هي نعم اللَّه عليه، وهي درجات الرضوان، فاشكر اللَّه كما تشكره على الفتوحات، واعلم أن مثوبة الصبر فوق مثوبة الشكر. ومن ربط جأش عمر رضي اللَّه عنه قوله: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت. وبهذه العزائم سبقونا فلا نطمع بالغبار، وامتدت خُطاهم، ونعوذ باللَّه من العثار. ومن وصايا الفرس: إن نزل بك ما فيه حيلة فلا تعجز، وإن نزل بك ما ليس فيه حيلة فلا تجزع.
ولما اشتد الأمر بعكا وطال أرسل السّلطان كتابًا إلى شمس الدين ابن منقذ يأمره بالمسير إلى صاحب المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يستنصر به، ليقطع عنه مادتهم من جهة البحر. ويأمر ابن منقذ أن يستقرئ في الطريق والبلاد ما يُحيي به الملك يعقوب وكيف عاداتهم. وأن يقصّ عليه: من أول وصولنا إلى مصر، وما أزلنا بها من الإلحاد، وما فتحنا من بلاد الفرنج وغيرها وتفصيل ذلك كله، وأمر عكا، وأنه لا يمضي يوم إلا عن قوة تتجدد وميرة في البحر تصل، وأن ثغرنا حصروه، ونحن حصرناهم، فما تمكنوا من قتال الثغر، ولا تمكنوا من قتالنا وخندقوا على نفوسهم عدة خنادق، فما تمكنا من قتالهم. وقدموا إلى الثغر أبرجة من خشب أحرقها أهله. وخرجوا مرتين إلينا يبغون غرتنا، ينصرنا اللَّه عليهم، ونقتلهم قتلًا ذريعًا، أجلت إحدى النوبتين عن عشرين ألف قتيل منهم. والعدو وإن حصر الثغر فإنه محصور، ولو أبرز صفحته لكان بإذن اللَّه هو المكسور، ويذكر ما دخل الثغر من أساطيلنا ثلاث مرات وإحراقها مراكبهم، وهي الأكثر، ودخولها بالسيف الأظهر تنقل إلى البلد الميرة. وإن أمر العدو قد تطاول ونجدته تتواصل،