في الكرم، وقف به يوماً، وهو يبيع الرطب، فعرض عليه رطبةً استحسنها، وسأله أن يأكلها، فقال: لا. فألح عليه، وحلف عليه جاره يميناً: لا آكل لك شيئاً. فكان بعد يتأسف ويتندم على يمينه.
قال: وكان يحضر مجالس العلم على ثقل سمعه، فإذا انقضى الدرس سأل من أترابه أن يعيدوا له بصوتٍ عالٍ كلام المدرس.
قال: وكان قل أن يدعو لأحدٍ، بل يطلب منه الدعاء، فيقول للطالب: ما تحتاج. ويقول لآخر: ما أشتهي لأحدٍ من الأمة إلا خيراً. ويقول لآخر: أود لو كان الناس كلهم على الخير. ويقول لآخر: أحب لكل أحدٍ ما أحبه لنفسي.
قال ابن المنير: وقال لي مرةً: يطلب أحدهم مني الدعاء بلسانه، ويظهر لي من قرائن أحواله أن قلبه غافل، وأن نفسه قاسية على نفسه، فكيف أرقّ أنا عليه، وكيف أدعو له بلا رقة؟
قال: وحضر عندي بعض أصحاب الكامل، وهو في غاية البذخ، عليه الملبوس الفاخر، وعلى الباب المراكب الثمينة، وبين يديه المماليك، وهو يتحدث مع رفيقه، ويتضاحكان، ثم سألني الدعاء، فأجريته على العادة، فناقشني، وقال: ما الناس إلا يتحدثون بأنك لا تدعو لأحدٍ معين، وينتقدون ذلك، فقلت: ألست تعلم أن الدعاء طلب العبد الضعيف من الرب الرحيم؟ قال: بلى، فقلت: أيطلب منه برقة أم بقسوة؟ قال: برقة، فقلت: ما أجدها عليك، لأني ما وجدتها منك، فبأي لسانٍ أدعو، وإن شئتم الدعاء باللسان فهو البيدق الفارغ بلا قلب.
وقال لي: أقمت زماناً أصافح تمسكاً بالحديث، ثم وجدت النفس عند المصافحة تتصرف في الإنسان فرب، ودودٍ تبسط الكف له بسرعة، ورب آخر تتكلف له، فقلت: العدل خيرٌ من المصافحة، فتركتها. وقد قال مالك: ليست من عمل الناس، وربما قال: الأمر فيها، واسع.
وكان رحمه الله لا يأذن لأحدٍ من أرباب الدنيا، والولايات في الدخول عليه متى شاء.
قال لي: فتحت الباب فرأيت جندياً فقلت: من أنت؟ قال: أنا الذي توليت الإسكندرية. وكان ثاني يوم قدم فقلت: وما حاجتك؟ قال: أن تأذن لي كلما أردت أن أجيء ليكون حضوري بدستور منك عام. فأجرى الله