ثم بـ مختصر الهداية الذي جمعه، ثم بعد ذلك، اشتغل عليه الخَلْق بتصانيفه: المُقنِع والكافي والعُمدة، وكان يقرأ عليه النحو، ويشرحه، ولم يترك الإشغال إلا من عُذْر، وانتفع به غير واحد من البلدان، ورحلوا إليه، وكان لا يكاد يراه أحد إلا أحبه، حتى كان كثير من المخالفين يحبونه، ويصلّون خلفه ويمدحونه مدحاً كثيراً، وكنت أعرف في عهد أولاده أنهم يتخاصمون عنده، ويتضاربون وهو لا يتكلم، وكنا نقرأ عليه، ويحضر مَنْ لا يفهم، فربما اعترض ذلك الرجل بما لا يكون في ذلك المعنى، فنغتاظ نحن، ويقول: ليس هذا من هذا، وجرى ذلك غير مرة، فما أعلم أنه قال له قط شيئاً، ولا أوجع قلبه، وكانت له جارية تؤذيه بخُلُقها فما كان يقول لها شيئاً، وكذلك غيرها من نسائه.
وسمعت البهاء عبد الرحمن يقول: لم أر فيمن خالطت أجمل منه، ولا أكثر احتمالاً.
وكان متواضعاً، يقعد إليه المساكين، ويسمع كلامهم، ويقضي حوائجهم، ويعطيهم، وكان حسَنَ الأخلاق، لا نكاد نراه إلا متبسماً، يحكي الحكايات لجُلَسائه، ويخدمهم، ويمزح، ولا يقول إلا حقاً.
وسمعت البهاء عبد الرحمن يقول: قد صحِبناه في الغزاة، فكان يمازحنا، وينبسط معنا، يقصد بذاك طيب قلوبنا، فما رأيت أكرم منه، ولا أحسن صُحبة، وكان عندنا صِبيان يشتغلون عليه من حوران، وكانوا يلعبون بعض الأوقات إذا خلوا، فشكى بعض الجماعة إلى الشيخ أبي عمر، فقال: أخرجوهم من عندنا، ثم قال: هؤلاء أصحاب الموفق، فاذكروهم له، فقالوا له، فقال: وهل يصنعون إلا أنهم يلعبون؟ هم صبيان لابد لهم من اللعب إذا اجتمعوا، وإنكم كنتم مثلهم، وكان بعض الأوقات يرانا نلعب فلا ينكر علينا.
ولقد شاورته في أشياء متعددة، فيشير عليّ بشيء، فأراه بعد كما قال، وكم قد جرى على أصحابنا من غمّ وضيق صدر من جهة السلاطين واختلافهم، فإذا وصل الكلام إليه أشار بالرأي السديد الذي يراه، فيكون في