للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزّء جزأه بينه وبين النّاس، ورد ذلك بالخاصّة على العّامة، ولا يدّخر عنهم شيئا، فكان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدّين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمّة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، يقول: ليبلّغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبّت الله قدميه يوم القيامة، ولا يذكر عنده إلاّ ذلك ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روّادا، ولا يفترقون إلاّ عن ذواق ويخرجون أدلّة - يعني على الخير -.

فسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان يخزن لسانه إلاّ ممّا يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر النّاس ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عمّا في النّاس، ويحسّن الحسن ويقويّه، ويقبّح القبيح ويوهّيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا، لكلّ حال عنده عتاد، لا يقصّر عن الحقّ، ولا يجاوزه، الذين يلونه من النّاس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده أحسنهم مواساة (١).

فسألته عن مجلسه كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله لا يقوم ولا يجلس إلاّ على ذكر، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، يعطي كلّ جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يردّه إلاّ بها، أو بميسور من القول، قد وسع النّاس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحقّ سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبّن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته، متعادلين


(١) كتب ابن البعلي على هامش الأصل: "بلغت قراءة على مؤلفه الحافظ أبي عبد الله الذهبي، كتبه ابن البعلي، وذلك في الخامس عشر".