ولى أحدًا من قضاته، كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرًا دون أن يكون بمحضر أربعةٍ من أعيان الفقهاء، يشاورهم في ذلك الأمر، وإن صغر، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغًا عظيمًا، ونفقت في زمانه كتب الفقه في مذهب مالك، وعمل بمقتضاها، ونبذ وراءه ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي العلماء النظر في الكتاب والسنن، ودان أهل زمانه بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيءٍ من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عنده تقبيح الكلام وكراهية الصدر الأول له، وأنه بدعة، حتى استحكم ذلك في نفسه، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالوعيد على من وجد عنده شيءٌ من كتب الكلام.
ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي - رحمه الله - إلى المغرب، أمر أمير المسلمين علي بن يوسف بإحراقها، وتوعد بالقتل من وجد عنده شيءٌ منها، واشتد الأمر في ذلك إلى الغاية.
واعتنى باستدعاء المنشئين والكتاب، فاجتمع له ما لم يجتمع لسلطانٍ منهم، كأبي القاسم بن الجد الأحدب، وأبي بكر محمد بن محمد بن القنطرية، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال، وأخيه أبي مروان، وعبد المجيد بن عيذون.
وطالت أيامه، إلى أن التقى عسكر بلنسية مع العدو الملعون، فهزموا المسلمين، وقتلوا من المرابطين خلقًا كثيرًا، وذلك بعد الخمسمائة، واختلت بعدها حال علي بن يوسف، وظهرت في بلاده مناكر كثيرة، لاستيلاء أمراء المرابطين الذين هم جنده على البلاد الأندلسية، ثم ادعوا الاستبداد بالأمور، وانتهوا في ذلك إلى التصريح، وصار كل واحدٍ منهم يجهر بأنه خيرٌ من أمير المسلمين علي بن يوسف، وأنه أولى بالأمر منه، واستولى النساء على الأحوال، وصارت كل امرأةٍ من أكابر البرابر مشتملةً على كل مفسدٍ وشرير، وقاطع سبيلٍ، وصاحب خمرٍ، وأمير المسلمين في ذلك يزيد تغافله، ويقوى ضعفه، وقنع بالاسم والخطبة، وعكف على العبادة، فكان يصوم النهار، ويقوم الليل، واشتهر عنه ذلك، وأهمل أمر الرعية غاية الإهمال، وكان يعلم من نفسه العجز، حتى إنه رفع مرة يديه وقال: اللهم قيض لهذا الأمر من يقوى عليه ويصلح أمور المسلمين، حكى عنه هذا عبد الله بن خيار.