وأوحشوا نفوس الجند من ابن مقلة ومن بدر، وتحالفوا وصارت كلمتهم واحدة. ثمّ صاروا إلى دار الخلافة فأحدقوا بها، وصار الراضي في أيديهم كالأسير، وطالبوه أن يخرج معهم إلى الجامع فيصلي بالناس ليعلموا أنه من حزبهم. فخرج يوم الجمعة سادس جمادى الأولى، فصلى بالناس، وقال في خطبته: اللهم إن هؤلاء الغلمان بطانتي وظهارتي، فمن أرادهم بخير فأزده، ومن كادهم فكده.
وأمر بدراً الخرشني بالمسير على إمرة دمشق مسرعاً.
ثمّ أخذ ابن مقلة يشير على الراضي سراً أن يخرج بنفسه ليدفع محمد بن رائق عن واسط والبصرة. ثمّ بعث ابن مقلة بمقدم من الحجرية، وآخر من الساجية برسالة إلى ابن رائق يطلب المحاسبة. فأحسن ابن رائق إليهما، وحملهما رسالة إلى الراضي سراً بأنه إن استدعي إلى الحضرة قام بتدبير الخلافة، وكفى أمير المؤمنين كل مهم، فقدما. فلم يلتفت الراضي إلى الرسالة. ولما رأى ابن مقلة امتناع ابن رائق عليه عمل على خروج الراضي إلى الأهواز، وأن يرسل القاضي برسالة إلى ابن رائق لئلا يستوحش. فبينا ابن مقلة في الدهليز شغب الغلمان ومعهم المظفر، وأظهروا المطالبة بالأرزاق، وقبضوا على الوزير، وبعثوا إلى الراضي يعرفونه ليستوزر غيره، فبعث إليهم يستصوب رأيهم، ثم قال: سموا من شئتم حتى أستوزره. فسموا علي بن عيسى، وقالوا: هو مأمون كافي. فاستحضره وخاطبه بالوزارة فامتنع، فخاطبه ثانية وثالثة فامتنع، فقال: أشر بمن ترى. فأومى إلى أخيه عبد الرحمن بن عيسى. فبعث الراضي إليه المظفر بن ياقوت، فأحضره وقلده، وركب الجيش بين يديه، وأحرقت دار ابن مقلة، وهذه المرة الثالثة.
وكان قد أحرق دار سليمان بن الحسن. فكتبوا على داره:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر واختفى الوزير وأعوانه.